منتديات عالم كونوها
 زاد المعاد في هدي خير العباد  0d354c4e65f302
منتديات عالم كونوها
 زاد المعاد في هدي خير العباد  0d354c4e65f302
منتديات عالم كونوها
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخولتسجيل دخول الاعضاء
 زاد المعاد في هدي خير العباد  Fb110

 

  زاد المعاد في هدي خير العباد

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
sasuke
المشرف العام
المشرف العام
sasuke


عدد المساهمات : 459
الموقع : عالم كونوها

 زاد المعاد في هدي خير العباد  Empty
مُساهمةموضوع: زاد المعاد في هدي خير العباد     زاد المعاد في هدي خير العباد  Icon_minitimeالأربعاء أكتوبر 10, 2012 2:36 pm


زاد [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] العباد


للإمام العلامة شيخ الإسلام
محمد بن أبى بكر الزرعى ابن قيم الجوزية


الجزء الأول


ترجمة ابن قيم الجوزية رحمه الله من كتاب "ذيل طبقات الحنابلة" لتلميذه الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله ،قال :

هو
محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد بن جريز الزرعي، ثم الدمشقي الفقيه
الأصولي، المفسر النحوي، العارف، شمس الدين أبوعبد الله بن قيم الجوزية ؛
شيخنا.



ولد سنة إحدى وتسعين وستمائة ، وتفقه [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] مذهب الإمام أحمد، وبرع وأفتى، ولازم الشيخ تقي الدين بن تيمية وأخذ عنه. وتفنن [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] علوم الإِسلام.




وكان عارفاً بالتفسير لا يجارى فيه،وبأصول الدين، وإليه فيهما المنتهى ، والحديث ومعانيه وفقهه، ودقائق الاستنباط منه،لا يلحق [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
ذلك، وبالفقه وأصوله وبالعربية،وله فيها اليد الطولى، وتعلم الكلام والنحو
وغير ذلك، وكان عالماً بعلم السلوك،وكلام أهل التصوف، وإشاراتهم،
ودقائقهم.له [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] كل فن من هذه الفنون اليد الطولى.








قال الذهبي [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] المختصر: عنى بالحديث ومتونه، وبعض رجاله. وكان يشتغل [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] الفقه، ويجيد تقريره وتدريسه، وفي الأصلين. وقد حبس مدة، لإِنكاره شد الرحال إلى قبر الخليل، وتصدى للأشغال، وإقراء العلم ونشره.







قلت:
وكان رحمه الله ذا عبادة وتهجد،وطول صلاة إلى الغاية القصوى، وتأله ولهج
بالذكر، وشفف بالمحبة، والإِنابة و الاستغفار، والافتقار إلى الله،
والإنكسار له، والإطراح بين يديه على عتبة عبوديته، لم أشاهد مثله [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] ذلك، ولا رأيت أوسع منه علماً،ولا أعرف بمعاني القرآن والسنة وحقائق الإيمان منه ،وليس هو المعصوم، ولكن لم أرَ [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] معناه مثله. وقد امتحن وأوفي مرات، وحبس مع الشيخ تقي الدين ابن تيمية [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] المرة الأخيرة بالقلعة، منفرداً عنه، ولم يفرج عنه إلا بعد موت الشيخ.








وكان [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] مدة حبسه مشتغلاً بتلاوة القراَن بالتدبر والتفكر، ففتح عليه من ذلك [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] كثير، وحصل له جانب عظيم من الأذواق والمواجيد الصحيحة، وتسلط بسبب ذلك على الكلام [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] علوم أهل المعارف، والدخول [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
غوامضهم، وتصانيفه ممتلئة بذلك، وحج مرات كثيرة، وجاور بمكة. وكان أهل مكة
يذكر و نعنه من شدة العبادة، وكثرة الطواف أمراً يتعجب منه. ولازمت مجالسه
قبل موته أزيد من سنة ، وسمعت عليه "قصيدته النونية الطويلة" [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
السنة، وأشياء من تصانيفه، وغيرها. وأخذ عنه العلم خلق كثير من حياة شيخه
وإلى أن مات، وانتفعوا به،وكان الفضلاء يعظمونه، ويتتلمذون له، كابن عبد
الهادي وغيره.








وقال القاضي برهان الدين الزرعي عنه: ما تحت أديم السماء أوسع علماً منه.







ودرس بالصدرية. وأمَّ بالجوزية مدة طويلة.وكتب بخطه ما لا يوصف كثرة. وصنف تصانيف كثيرة جداً [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] أنواع العلم. وكان شديد المحبة للعلم، وكتابته ومطالعته وتصنيفه،واقتناء الكتب، واقتنى من الكتب ما لم يحصل لغيره.







فمن
تصانيفه: كتاب "تهذيب سنن أبي داود" وإيضاح مشكلاته، والكلام على ما فيه من
الأحاديث المعلولة مجلد، كتاب "سفر الهجرتين وباب السعادتين" مجلد ضخم،
كتاب "مراحل السائرين بين منازل" إياكَ نَعْبُدُ وإياكَ نَسْتَعِين"
مجلدان، وهو شرح"منازل السائرين" لشيخ الإِسلام الأنصاري، كتاب جليل القمر،
كتاب "عقد محكم الأحباء، بين الكلم الطيب والعمل الصالح المرفوع إلىرب
السماء" مجلد ضخم، كتاب "شرح أسماء الكتاب العزيز" مجلد، كتاب "زاد
المسافرين إلى منازل السعداء [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] هدى خاتم الأنبياء" مجلد، كتاب "زاد [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] هدى [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] العباد" أربع مجلدات، وهو كتاب عظيم جداً، كتاب "جلاء الأفهام [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] ذكر الصلاة والسلام على [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
الأنام" وبيان أحاديثها وعللها مجلد، كتاب "بيان الدليل على استغناء
المسابقة عن التحليل" مجلد، كتاب "نقد المنقول والمحك المميز بين المردود
والمقبول" مجلد، كتاب "إعلام الموقعين عن رب العالمين"ثلاث مجلدات، كتاب
"بدائع الفوائد" مجلدان "الشافية الكافية [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] إلانتصار للفرقة الناجية" وهي"القصيدة النونية [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] السنة" مجلدان، كتاب"الصواعق المنزلة على الجهمية والمعطلة لما [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
مجلدات، كتاب "حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح" وهو كتاب "صفة الجنة" مجلد،
كتاب "نزهة المشتاقين وروضة المحبين" مجلد، كتاب"الداء والدواء" مجلد،
كتاب "تحفة الودود [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
أحكام المولود" مجلد لطيف، كتاب "مفتاح دار السعادة"مجلد ضخم، كتاب
"اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو الفرقة الجهمية" مجلد،كتاب "مصائد
الشيطان" مجلد، كتاب "الفرق الحكمية" مجلد "رفع اليدين [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
الصلاة" مجلد. كتاب "نكاح المحرم" مجلد "تفضيل مكة على المدينة" مجلد "فضل
العلماء" مجلد "عدة الصابرين" مجلد كتاب "الكبائر" مجلد"حكم تارك الصلاة"
مجلد، كتاب "نور المؤمن وحياته" مجلد، كتاب"حكم إغمام هلال رمضان"،
"التحرير فيما يحل، ويحرم من لباس الحرير"، "جوابات عابدي الصلبان، وأن ما
هم عليه دين الشيطان"، "بطلان الكيمياء من أربعين وجهاً" مجلد"الفرق بين
الخلة والمحبة، ومناظرة الخليل لقومه" مجلد "الكلم الطيب والعمل الصالح"
مجلد لطيف "الفتح القدسي"، "التحفة المكية" كتاب "أمثال القرآن" "شرح
الأسماء الحسنى"، "أيمان القرآن"، "المسائل الطرابلسية" ثلاث مجلدات
"الصراط المستقيم [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] أحكام أهل الجحيم" مجلدان، كتاب " الطاعون" مجلد لطيف.






توفى
رحمه الله وقت عشاء الآخرة ليلة الخميس ثالث عشرين رجب سنة إحدى وخمسين
وسبعمائة. وصلَّى عليه من الغد بالجامع عقيب الظهر، ثم بجامع جراح. ودفن
بمقبرة الباب الصغير، وشيعه خلق كثير، ورئيت له منامات كثيرة حسنة رضي
اللّه عنه. وكان قد رأى قبل موته بمدة الشيخ تقي الدين رحمه الله [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] النوم، وسأله عن منزلته ؟ فأشار إلى علوها فوق بعض الأكابر.ثم قال له: وأنت كدت تلحق بنا، ولكن أنت الآن [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] طبقة ابن خزيمة رحمه اللّه.

[center]زاد المعاد في هدي خير العباد
الجزء الأول
بسم الله الرحمن الرحيم
حسبي الله ونعم الوكيل
مقدَّمَة المؤلف
الحمد للّه ربِّ
العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عُدوان إلا على الظالمين، ولا إِلهَ إلا
اللّه إِله الأوّلين والآخرين، وقيُّوم السماواتِ والأرضين، ومالكُ يوم
الدين، الذي لا فوز إلا في طاعته، ولا عِزَّ إلا في التذلل لعظمته، ولا غنى
إلا في الافتقار إلى رحمته، ولا هدى إلا في الاستهداء بنوره، ولا حياة إلا
في رضاه، ولا نعيم إلا في قربه، ولا صلاح للقلب ولا فلاح إلا في الإِخلاص
له، وتوحيد حبِّه، ألذي إذا أُطيع شكر، وإذا عُصي تاب وغفر، وإذا دُعي
أَجاب، وإذا عُومل أثاب.

والحمد للّه الذي
شهدت له بالربوبية جميعُ مخلوقاته، وأقرَّت له بالإِلهية جميع مصنوعاته،
وشهدت بأنّه اللّه الذي لا إلهَ إلا هو بما أودعها من عجائب صنعته، وبدائع
آياته، وسبحان اللَّهِ وبحمده، عدد خلقه، ورِضَى نفسه، وَزِنَةَ عرشه،
ومِدَاد كلماته. ولا إِلهَ إلا اللّه وحده، لا شريك له في إِلاهيته،كما لا
شريك له في ربوبيته، ولا شبيه له في ذاته ولا في أفعاله ولا في صفاته،
واللّه أكبر كبيراً، والحمد للّه كثيراً، وسبحان اللّه بكرة وأصيلا، وسبحان
من سبَّحت له ا لسماواتُ وأملاكُها، والنجومُ وأفلاكها، والأرضُ وسكانها،
والبحارُ وحِيتانها، والنجومُ والجبال، والشجر والدواب، والآكامُ والرّمال،
وكلُّ رطب ويابس، وكل حي وميت {تُسَبّحُ لَهُ
السّمَاوَاتُ السّبْعُ وَالأرْضُ وَمَن فِيهِنّ وَإِن مّن شَيْءٍ إِلاّ
يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـَكِن لاّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنّهُ كَانَ
حَلِيماً غَفُوراً
} [الإسراء: 44].

وأشهد
أن لا إِله إلا اللّه وحدَه لا شريك له، كلمةٌ قامت بها الأرضُ والسماوات،
وخُلِقت لأجلها جميع المخلوقات، وبها أرسل اللّه تعالى رسلَهُ، وأنزل كتبه،
وشرع شرائعه، ولأجلها نُصِبَتِ الموازينُ، ووضِعَتِ الدواوين، وقام سوق
الجنة والنار، وبها انقسمت الخليقة إلى المؤمنين والكفار، والأبرارِ
والفجار، فهي منشأُ الخلق والأمر، والثوابِ والعقاب، وهي الحقُّ الذي خلقت
له الخليقة، وعنها وعن حقوقها السؤال والحساب، وعليها يقع الثوابُ
والعقابُ، وعليها نُصبَتِ القِبلةُ، وعليها أُسِّستِ المِلة، ولأجلها
جُرِّدَتْ سيوفُ الجهاد، وهي حقُّ اللَّهِ على جميع العباد، فهي كلمةُ
الإِسلام، ومفتاح دار السلام، وعنها يسأل الأولون والآخرون، فلا تزول قدما
العبد بين يدي اللّه حتى يسأل عن مسألتين: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجَبتُم
المرسلين؟

فجواب الأولى بتحقيق ((لا إله إلا اللّه)) معرفةً وإقراراً وعملاً.
وجواب الثّانية بتحقيق ((أن محمَّداً رسول اللّه)) معرفةً وإقراراً، وانقياداً
وطاعةً.
وفيها تقدير
رابع، وهو خطأ من جهة المعنى، وهو أن تكون ((مَنْ)) في موضع رفع عطفاً على
اسم اللّه، ويكون المعنى: حسبُك اللّه وأتباعُك، وهذا وإن قاله بعضُ الناس،
فهو خطأ محض، لا يجوز حملُ الآية عليه، فإن ((الحسب)) و ((الكفاية)) للّه
وحده، كالتوكل والتقوى والعبادة، قال اللّه تعالى: {وَإِن يُرِيدُوَاْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الّذِيَ أَيّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ}
[الأنفال: 62]. ففرَّق بين الحسب والتأييد، فجعل الحسبَ له وحدَه، وجعل
التأييد له بنصره وبعباده، وأثنى اللّه سبحانه على أهل التوحيد والتوكل مِن
عباده حيث أفردوه بالحسب، فقال تعالى: {الّذِينَ قَالَ
لَهُمُ النّاسُ إِنّ النّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ
فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ
}
[آل عمران: 173]. ولم يقولوا: حسبنا اللّه ورسوله، فإذا كان هذا قولَهم،
ومدح الرب تعالى لهم بذلك، فكيف يقول لرسوله: اللّه وأتباعُك حسبُك،
وأتباعه قد أفردوا الرب تعالى بالحسب، ولم يُشركوا بينه وبين رسوله فيه،
فكيف يُشرك بينهم وبينه في حسب رسوله؟! هذا مِن أمحل المحال وأبطل الباطل،
ونظيرُ هذا قولُه تعالى: {وَلَوْ أَنّهُمْ رَضُوْاْ مَا
آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا
اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ
} [التوبة: 59]. فتأمل كيف جعل الإِيتاء للّه ولرسوله، كما قال تعالى: {وَمَآ آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ } [الحشر: 7]. وجعل الحسبَ له وحده، فلم يقل: وقالوا: حسبنا اللّه ورسولُه، بل جعله خالصَ حقِّه، كما قال تعالى: {إِنّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة: 59]. ولم يقل: وإلى رسوله، بل جعل الرغبة إليه وحدَه، كما قال تعالى: {فَإذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وإِلى رَبِّكَ فَارغَب}
[الشرح: 7-8]، فالرغبةُ، والتوكل، والإِنابةُ، والحسبُ للَّهِ وحده، كما
أن العبادةَ والتقوى، والسجود للّه وحدَه، والنذر والحلف لا يكون إلا للّه
سبحانه وتعالى. ونظيرُ هذا قوله تعالى: {أَلَيْسَ اللّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}
[الزمر: 36]. فالحسبُ: هو الكافي، فأخبر سبحانه وتعالى أنَّه وحده كافٍ
عبدَه، فكيف يجعل أتباعه مع اللّه في هذه الكفاية؟! والأدلة الدَّالة على
بطلان هذا التأويل الفاسد أكثر من أن تذكر هاهنا.


والمقصودُ أن بحسب متابعة الرسول تكونُ العزَّة والكفاية والنُّصرة، كما أن
بحسب متابعته تكونُ الهدايةُ والفلاح والنجاة، فاللّه سبحانه علَّق سعادة
الدارين بمتابعته، وجعل شَقاوة الدارين في مخالفته، فلأتباعه الهدى والأمن،
والفلاحُ والعزَّة، والكفاية والنصرة، والوِلاية والتأييد، وطيبُ العيش في
الدنيا والآخرة، ولمخالفيه الذِّلةُ والصَّغار، والخوفُ والضلال،
والخِذلان والشقاءُ في الدنيا والآخرة. وقد أقسم صلى الله عليه وسلم بأن
((لا يُؤمِنُ أَحَدُكُم حَتَّى يَكُونَ هو أَحَبَّ إِلَيْهِ مِن وَلَده
وَوَالِدِه وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)) وأقسم اللّه سبحانه بأن لا يؤمنُ مَن
لا يُحكِّمه في كل ما تنازع فيه هو وغيرُه، ثم يَرضى بحُكمه، ولا يَجِدُ في
نفسه حرجاً ممّا حكم به ثم يُسلم له تسليماً، وينقاد له انقياداً وقال
تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا
قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ
أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلّ ضَلاَلاً مّبِيناً
}
[الأحزاب: 36]. فقطع سبحانه وتعالى التخيير بعد أمره وأمر رسوله، فليس
لمؤمن أن يختار شيئاً بعد أمره صلى الله عليه وسلم، بل إذا أمر، فأمرُه
حتم، وإنما الخِيَرَةُ في قول غيره إذا خفي أمرُه، وكان ذلك الغيرُ مِن أهل
العلم به وبسنته، فبهذه الشروط يكونُ قولُ غيره سائغَ الاتباع، لا واجب
الاتباع، فلا يجب على أحد اتباعُ قول أحد سواه، بل غايتُه أنَّه يسوغ له
اتباعُه، ولو تَرَكَ الأخذ بقول غيره، لم يكن عاصياً للّه ورسوله. فأين هذا
ممن يجب على جميع المكلفين اتباعُه، ويحرم عليهم مخالفتُه، ويجب عليهم
تركُ كل قول لقوله؟ فلا حكم لأحد معه، ولا قولَ لأحد معه، كما لا تشريع
لأحد معه، وكلُّ من سواه، فإنما يجب اتباعُه على قوله إذا أمر بما أمر به،
ونهى عما نهى عنه، فكان مبلغاً محضاً ومخبراً لا منشئاً ومؤسساً، فمن أنشأ
أقوالاً، وأسس قواعدَ بحسب فهمه وتأويله، لم يجب على الأمّةِ اتباعُها، ولا
التحاكم إليها حتى تُعرَض على ما جاء به الرسولُ، فإن طابقته،ووافقته،وشهد
لها بالصحة، قُبِلَتْ حينئذٍ، وإن خالفته، وجب ردُّها واطِّراحُها، فإن لم
يتبين فيها أحدُ الأمرين، جُعِلَتْ موقوفة، وكان أحسنُ أحوالها أن يجوزَ
الحكمُ والإِفتاء بها وتركه، وأما أنه يجب ويتعين، فكلا، ولما.


وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وأمينه على وحيه، وخِيرته من خلقه، وسفيرُه
بينه وبين عباده، المبعوث بالدين القويم، والمنهج المستقيم، أرسله اللّه
رحمةً للعالمين، وإماماً للمتقين، وحجةً على الخلائق أجمعين. أرسله على حين
فترة من الرسل، فهدى به إلى أقومِ الطرق وأوضح السُّبل، وافترض على العباد
طاعتَه وتعزيره وتوقيره ومحبته، والقيام بحقوقه، وسدَّ دون جنَته الطرق،
فلن تفتح لأحد إلا من طريقه، فشرح له صدرَه، ورفع له ذِكْره، ووضع عنه
وِزره، وجعل الذِّلَةَ والصَّغار على من خالف أمره. ففي ((المسند)) من حديث
أبي منيب الجُرَشي،عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول اللّه
صلى الله عليه وسلم: ((بُعِثْتُ بالسَّيفِ بَينَ يدِي الساعةِ حتى
يُعْبَدَ اللَّهُ وحدَه لا شريكَ له، وجُعِلَ رِزقي تحتَ ظِلَ رمُحي،
وجُعِلَ الذِّلَةُ والصَّغَار على مَنْ خالف أمري، ومن تشبَّه بِقَومٍ، فهو
منهم)) وكما أنَّ الذِّلة مضروبة على من خالف أمره، فالعِزَّة لأهل طاعته
ومتابعته، قال اللّه سبحانه: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139]. وقال تعالى: {وَلِلّهِ الْعِزّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَـَكِنّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} [المنافقون: 8]. وقال تعالى: {فَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُوَاْ إِلَى السّلْمِ وَأَنتُمُ الأعْلَوْنَ وَاللّهُ مَعَكُمْ} [محمد: 35].

وقال تعالى: {يَأَيّهَا النّبِيّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64] أي: اللَّهُ وحده كافيك، وكافي أتباعِك، فلا تحتاجون معه إلى أحد.
وهنا تقديران،
أحدُهما: أن تكون الواو عاطفة لـ (مَنْ) على الكاف المجرورة، ويجوز العطف
على الضمير المجرور بدون إعادة الجار على المذهب المختار، وشواهدُه كثيرة،
وَشُبَهُ المنع منه واهِية.

والثاني: أن تكون
الواو وَاوَ (مع) وتكون (مَن) في محل نصب عطفاً على الموضع، (فإن حسبك) في
معنى (كافيك)، أي: اللَّهُ يكفيك ويكفي مَنِ اتبعك، كما تقول العرب: حسبك
وزيداً درهم، قال الشَّاعر:

إِذَا كَانَتِ الهَيْجَاءُ وَانْشَقَّتِ العَصَا فَحَسْبُكَ وَالضحَّاكَ سَيْفٌ مُهَنَّد
وهذا أصحُّ التقديرين.
وفيها تقدير ثالث: أن تكون (مَنْ) في موضع رفع بالابتداء، أي: ومن اتبعك من المؤمنين، فحسبُهُم اللَّهُ.
وبعدُ، فإنَّ اللّه سبحانه وتعالى هوالمنفردُ بالخلق والاختيار من المخلوقات، قال اللّه تعالى: {وَرَبّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ}
[القصص: 68]. وليس المراد هاهنا بالاختيار الإِرادة التي يُشير إليها
المتكلمون بأنه الفاعل المختار - وهو سبحانه -كذلك، ولكن ليس المرادُ
بالاختيار هاهنا هذا المعنى، وهذا الاختيار داخل في قوله: {يَخْلُقُ مَا
يَشَاءُ}، فإنه لا يخلُق إلا باختياره وداخل في قوله تعالى: {مَا يَشَاءُ}،
فإن المشيئة هي الاختيارُ، وإنما المرادُ بالاختيار هاهنا: الاجتباء
والاصطفاء، فهو اختيارٌ بعدَ الخلق، والاختيارُ العام اختيارٌ قبل الخلق،
فهو أعم وأسبق، وهذا أخصُّ، وهو متأخر، فهو اختيارٌ من الخلق، والأول
اختيارٌ للخلق.

وأصحُّ القولين أن الوقف التام على قوله: {وَيَخْتار} ويكون {مَا كَانَ لَهُم الخِيَرَةُ}
نفياً، أي: ليس هذا الاختيار إليهم، بل هو إلى الخالق وحده، فكما أنه
المنفرد بالخلق، فهو المنفرد بالاختيار منه، فليس لأحد أن يخلق، ولا أن
يختار سواه، فإنه سبحانه أعلم بمواقع اختياره، وَمَحَالِّ رضاه، وما يصلُح
للاختيار مما لا يصلح له، وغيرُه لا يُشاركه في ذلك بوجه.

وذهب بعض من لا تحقيق عنده، ولا تحصيل إلى أن ((ما)) في قوله تعالى: {مَا كَانَ لهُمُ الخِيَرَةُ} موصولة، وهي مفعول ((ويختار)) أي: ويختار الذي لهم الخيرة، وهذا باطل من وجوه.
أحدُها: أن الصلة حينئذٍ
تخلو من العائد، لأن ((الخِيرةَ)) مرفوع بأنه اسم ((كان)) والخبر ((لهم))،
فيصير المعنى: ويختار الأمر الذي كان الخيرةُ لهم، وهذا التركيبُ محال من
القول. فإنْ قيل: يمكن تصحيحُه بأن يكون العائد محذوفاً، ويكون التقدير:
ويختار الذي كان لهم الخِيرةُ فيه، أي: ويختار الأمرَ الذي كان لهم
الخِيرةُ في اختياره.

قيل: هذا يفسُد
من وجه آخر، وهو أن هذا ليس من المواضع التي يجوز فيها حذف العائد، فإنه
إنما يحذف مجروراً إذا جُرَّ بحرف جُرَّ الموصولُ بمثله مع اتحاد المعنى،
نحوُ قوله تعالى: {يَأْكُلُ مِمّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمّا تَشْرَبُونَ} [المؤمنون: 33]، ونظائره، ولا يجوز أن يقال: جاءني الذي مررتُ، ورأيت الذي رغبتُ، ونحوه.


الثّاني: أنه لو أُريد هذا المعنى لنصب ((الخيرة)) وشُغِلَ فعل الصلة بضمير
يعود على الموصول، فكأنه يقول: ويختارُ ما كان لهم الخيرة، أي: الذي كان
هو عينَ الخيرة لهم، وهذا لم يقرأْ به أحد البتَّة، مع أنه كان وجه الكلام
على هذا التقدير.




الثّالث: أن اللّه سبحانه يَحكي عن الكفار
اقتراحَهم في الاختيار، وإرادتهم أن تكون الخيرةُ لهم، ثمين في هذا سبحانه
عنهم، ويبين تفرُّدَه هو بالاختيار، كما قال تعالى: {وَقَالُواْ
لَوْلاَ نُزّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَىَ رَجُلٍ مّنَ الْقَرْيَتَيْنِ
عَظِيمٍ *أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ
مّعِيشَتَهُم ْفِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ
بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لّيَتّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ
رَبّكَ خَيْرٌ مّمّا يَجْمَعُونَ
} [الزخرف: 31-32]، فأنكر عليهم
سبحانَه تخيُّرَهم عليه، وأخبر أن ذلكليس إليهم، بل إلى الذي قَسَمَ بينهم
معايشَهم المتضمنةَ لأرزاقهم وَمُدَدِآجالهم، وكذلك هو الذي يَقسِم فضله
بين أهل الفضل على حسب علمه بمواقع الاختيار،ومن يصلُح له ممن لا يصلُح،
وهو الذي رفع بعضهم فوق بعض درجات، وقسم بينهم معايشهم، ودرجات التفضيل،
فهو القاسم ذلك وحده لا غيره، وهكذا هذه الآية بيّن فيها انفراده بالخلق
والاختيار، وأنه سبحانَه أعلمُ بمواقع اختياره، كما قال تعالى:{وَإِذَا
جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نّؤْمِنَ حَتّىَ نُؤْتَىَ مِثْلَ
مَاأُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ
سَيُصِيبُ الّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ
بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ
} [الأنعام: 124]، أي: اللّه أعلمُ بالمحل الذي يصلح لاصطفائه وكرامته وتخصيصه بالرسالة والنبوة دون غيره.


الرَّابع: أنهنزَّه نفسه سبحانه عمّا اقتضاه شِرْكُهم مِن اقتراحهم واختيارهم فقال: {وَرَبّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللّهِ وَتَعَالَىَ عَمّا يُشْرِكُونَ} [القصص: 68]، ولم يكن شِركهم مقتضياً لإِثبات خالقٍ سواه حتى نزَّه نفسه عنه، فتأمله، فإنه في غاية اللطف.

الخامس: أن هذا نظيرُ قوله تعالى في: {يَأَيّهَا
النّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ إِنّ الّذِينَ تَدْعُونَ مِن
دُونِ اللّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ وَإِن
يَسْلُبْهُمُ الذّبَابُ شَيْئاً لاّيَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطّالِبُ
وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ إِنّ اللّهَ
لَقَوِيّ عَزِيزٌ
} ثم قال: {اللّهُ يَصْطَفِي مِن
َالْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النّاسِ إِنّ اللّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ *
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ
الأُمُورُ
}[الحِج: 73 - 76]. وهذا نظير قولِهِ في: {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} [القصص: 69] ونظيرُ قوله في: {اللهُ أَعلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}
[الأنعام: 124] فأخبر في ذلك كلِّه عن علمه المتضمنِ لتخصيصه مَحَالَّ
اختياره بما خصصها به، لِعلمه بأنها تصلُح له دون غيرها، فتدبر السِّياق في
هذه الآيات تَجِدْهُ متضمناً لهذا المعنى، زائداً عليه، واللّه أعلم.


السادس: أن هذه الآية مذكورةٌ عَقيبَ قوله: {وَيَومَ
يُنَادِيهِم فَيَقُول مَاذَا أَجَبتُمُ المُرسَلِينَ * فَعَمِيَتْ
عَلَيهِم الأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهمْ لاَيَتَسَاءَلونَ * فَأمَّا مَنْ
تَابَ وآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَن يَكونَ مِنَ المفلِحِينَ *
وَرَبُّكَ يَخلُقُ مَا يَشَاءُ وَيختَارُ
} [القصص: 65-68] فكما
خلقهم وحده سبحانه، اختار منهم من تاب، وآمن، وعمل صالحاً، فكانوا صفوتَه
منعباده، وخيرتَه مِن خلقه، وكان هذا الاختيارُ راجعاً إلى حكمته وعلمه
سبحانه لمنهو أهلٌ له، لا إلى اختيار هؤلاء المشركين واقتراحِهم، فسبحان
اللّه وتعالى عمَّا يشركون.


فصل


وإذا تأملت أحوالَ هذا الخلقِ، رأيتَ هذا الاختيار والتخصيص فيه
دالاً على ربوبيته تعالى ووحدانيته، وكمالِ حكمته وعلمه وقدرته، وأنه
اللَّهُ الذي لا إله إلا هو، فلا شريك له يخلُق كخلقه، ويختار كاختياره،
ويدبِّر كتدبيره، فهذا الاختيارُ والتدبير، والتخصيص المشهود أثرُه فيهذا
العالم مِنْ أعظم آيات ربوبيته، وأكبرِ شواهد وحدانيته، وصفات كماله، وصدقِ
رسله، فنشيرُ منه إلى يسير يكونُ منبهاً على ما وراءه، دالاً على ما سواه.



فخلق اللّه السماواتِ سبعاً، فاختار العُليا منها، فجعلها مستقر
المقربين مِن ملائكته، واختصها بالقرب مِن كرسيه ومِن عرشه، وأسكنها مَن
شاءَ مِن خلقه، فلها مزيةٌ وفضلٌ على سائر السماوات، ولو لم يكن إلا قربُها
منه تبارك وتعالى. وهذا التفضيلُ والتخصيصُ مع تساوي مادة السماوات
مِنأبين الأدلة على كمال قدرته وحكمته، وأنه يخلق ما يشاء ويختار.


وَمِن هذا تفضيلُه سبحانه جنّةَ الفردوس على سائر الجنان، وتخصيصُها بأن جعل عرشه سقفَها، وفي بعض الآثار: ((إن
اللّهسبحانه غرسها بيده، واختارها لِخيرته مِن خلقه)). وَمِن هذا اختيارُه
مِن الملائكة المصطفيْنَ مِنهم على سائرهم،كجبريلَ، وميكائيلَ، وإسرافيلَ،
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ
وَمِيكَائِيلَ وَإسْرَافِيلَ ،فَاطِرَ السَّماوات وَالأرضِ، عَالِمَ
الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ،أَنْت َ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا
كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الحَقِّ
بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ
)).



فذكر هؤلاء الثلاثة مِن الملائكة لكمال اختصاصهم،واصطفائهم،
وقربهم من اللّه، وكم مِن مَلَك غيرهِم في السماوات، فلم يُسم إلاهؤلاء
الثلاثة. فجبريل: صاحبُ الوحي الذي به حياةُ القلوب والأرواح،
وميكائيلُ:صاحب القَطْرِ الذي به حياةُ الأرض والحيوان والنبات، وإسرافيل:
صاحب الصُور الذي إذا نفخ فيه، أحيت نفختُه بإذن اللّه الأموات، وأخرجتهم
مِن قبورهم.



وكذلك اختيارُه سبحانه للأنبياء مِن ولد آدم عليه وعليهم
الصلاةُ والسلام، وهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، واختياره الرسل منهم،
وهم ثَلاثُمائة وثلاثة عشر، على ما في حديث أبي ذر الذي رواه أحمد، وابن
حبان في ((صحيحه))، واختيارُه أولي العزم منهم، وهم خمسة المذكورون في سورة
(الأحزاب) و (الشورى) في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا
مِنَ النّبِيّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ
وَمُوسَىَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مّيثَاقاً
غَلِيظاً
} [الأحزاب: 7]،وقال تعالى: {شَرَعَ
لَكُم مّنَ الدّينِ مَا وَصّىَ بِهِ نُوحاً وَالّذِيَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ
وَمَا وَصّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىَ وَعِيسَىَ أَنْ أَقِيمُواْ
الدّينَ وَلاَ تَتَفَرّقُواْ فِيهِ
} [الشورى: 13]، واختار منهم الخليلينِ: إبراهيمَ ومحمداً صلى اللّه عليهما وآلهما وسلم.



وَمِنْ هذا اختيارُه سبحانه ولدَإسماعيل من أجناس بني آدم، ثم
اختار منهم بني كِنانة مِن خُزيمة، ثم اختار مِن ولد كِنانة قُريشاً، ثم
اختار مِن قريش بني هاشم، ثم اختار من بني هاشم سَيِّدَ ولدِآدم محمَّداً
صلى الله عليه وسلم.



وكذلك اختار أصحابه مِن جملة العَالَمِينَ، واختار منهم السابقينَ
الأولين، واختار منهم أهلَ بدر، وأهلَ بيعةالرِّضوان، واختار لهم مِن
الدِّين أكملَه، ومِن الشرائع أفضلَها، ومن الأخلاق أزكَاها وأطيبها
وأطهَرها.



واختار أمته صلى الله عليهوسلم على سائر الأمم، كما في
((مسند الإِمام أحمد)) وغيره من حديث بهَزِ بن حكيم بن معاوية بن حيْدَةَ،
عن أبيه، عن جدِّه قال: قال رسُولُ صلى الله عليه وسلم((أَنْتمْ مُوفونَ سَبْعِينَ أُمَّة أَنْتمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللّه)). قال علي بن المْديني وأحمد: حديثُ بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جدّه صحيح.



وظهر أثرُ هذا الاختيار في أعمالهم وأخلاقهم وتوحيدِهم ومنازلهم
في الجنَة ومقاماتهم في الموقف، فإنهم أعلى من النَّاس على تلٍّ فوقهم
يشرفون عليهم، وفي الترمذي من حديث بُريدة بن الحُصَيْبِ الأسلمي قال: قال
رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم: ((أَهلُ الْجَنَّةِ عِشْرُونَ وَمَائةُ صفٍّ، ثَمَانُونَ مِنْهَا مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ، وَأَرْبَعُونَ مِنْ سَائِرِ الأُمَمِ)) قال الترمذي: هذا حديث حسن. والذي في ((الصحيح)) من حديث أبيسعيد الخُدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث بعث النار: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَده إنِّى لأَطْمَعُ أَنْ تكُونُوا شَطْرَ أَهْلِ الجَنَّةِ))،
ولم يزد على ذلك. فَإِمَّا أن يقال: هذا أصح، وإمَّا أن يُقال: إن النبي
صلى الله عليه وسلم طمع أن تكون أمتُه شطرَ أهل الجنة، فأعلمه ربُّه فقال:
((إنهم ثمانون صفاً من مائة وعشرين صفاً))، فلا تنافي بين الحديثين، واللّه أعلم.



وَمِن تفضيل اللّه لأمته واختيارِه لها أنه وهبها مِن العلم
والحلم ما لم يَهَبْهُ لأُمَّة سواها، وفي ((مسند البزار))وغيره من حديث
أبي الدرداء قال: سمعتُ أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنَّ
اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِعيسَى ابْنِ مَريَمَ: ((إِنِّي بَاعِثٌ مِنْ
بَعْدِكَ آمةً إِنْ أَصَابَهُم مَا يُحِبُّونَ، حَمِدُوا وَشَكَرُوا، وَإنْ
أَصَابَهمْ مَايَكْرَهُونَ، احْتَسَبُوا وَصبَرُوا، وَلاَ حِلْمَ وَلاَ
عِلْمَ، قَالَ: يَارَبِّ، كَيْفَ هَذَا وَلا حِلْمَ وَلا عِلْمَ؟ قَالَ:
أُعْطِيهِمْ مِنْ حِلْمِي وَعِلْمِي
)).



وَمِن هذا اختيارُه سبحانه وتعالى مِن الأماكن والبلاد
خيرَهَا وأشرفهَا، وهي البلد الحرامُ، فإنه سبحانه وتعالى اختاره لنبيه صلى
الله عليه وسلم، وجعله مناسك لعباده، وأوجب عليهم الإِتيانَ إليه من
القُرْب والبُعْد مِن كلِّ فَجٍّ عميقٍ، فلا يَدخلونه إلامتواضعين متخشعين
متذللين، كاشفي رؤوسهم، متجردين عن لِباس أهل الدنيا، وجعلَه حَرَماً
آمِناً، لا يُسفك فيه دمٌ، ولا تُعَضَدُ به شجرة،ولا يُنَفَّر له صيدٌ،ولا
يُختلى خلاه، ولا تُلتقط لُقَطَتُه للتمليك بل للتعريف ليس إلا، وجعل قصدهم
كفراً لما سلف من الذنوب، ماحياً للأوزار، حاطاً للخطايا، كما في
((الصحيحين)) عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: ((مَن أَتَى هَذَا الْبَيْتَ،فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيوْم وَلَدَتْهُ أُمُّهُ))،
ولم يرض لقاصده مِنَ الثواب دون الجنَّة، ففي ((السنن)) من حديث عبد اللّه
بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: ((تَابِعُوا
بَيْنَ الحَجِّ وَالعُمْرَةِ، فَإنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الفَقْرَ
وَالذّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الكِيرُ خَبَثَ الحدِيدِ والذَّهَبِ
وَالفِضَّةِ، وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ المَبْرُورَةِ ثَوَابٌ دُونَ الجنَّةِ
)). وفي ((الصحيحين)) عن أبي هريرة أنَّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: ((العُمْرَةُ إِلَى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلاَّ الجَنَّةَ))،
فلولم يكن البلدُ الأمين خيرَ بلاده، وَأحبَّها إليه، ومختارَه من البلاد،
لما جعل عرصَاتِها مناسِكَ لعباده، فَرَضَ عليهم قصدَها، وجعل ذلك من آكدِ
فروض الإِسلام،وأقسم به في كتابه العزيز في موضعين منه، فقال تعالى؟ {وَهَذَا الْبَلَدِ الأمِينِ} [التين: 3]، وقال تعالى: {لاَ أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ}
[البلد: 1]،وليس على وجه الأرض بقعةٌ يجب على كل قادرٍ السعيُ إليها
والطوافُ بالبيت الذي فيها غيرَها، وليس على وجه الأرض موضعٌ يُشرع تقبيلُه
واستلامُه، وتُحط الخطايا والأوزار فيه غيرَ الحجر الأسود، والركن
اليماني. وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الصلاة في المسجد الحرام
بمائة ألف صلاة، ففي ((سنن النسائي)) و((المسند))بإسناد صحيح عن عبد اللّه
بن الزبير،عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قالSad(صَلاَةٌ
في مَسجدي هَذَا أفْضَلُ مِن ألفِ صلاَة فِيمَا سِوَاهُ إِلاَّالمَسْجدَ
الْحَرَامَ، وصَلاَةٌ في المًسجِدِ الحَرَامِ أفْضَل مِنْ صَلاَةً في
مَسْجدي هَذَا بمَائَة صَلاَة
)) ورواه ابن حبان في ((صحيحه)) وهذا
صَرًيح في أنَ اَلمسجدالَحَراَمَ أفضلُ بقاعِ الأرض على الإطلاق، ولذلك كان
شدُّ الرحال إليه فرضاً،ولِغيره مما يُستحب ولا يجب، وَفي ((المسند))،
والترمذي والنسائي، عن عبد اللّه بنعدي بن الحصراء أنه سمع رسول اللّه صلى
الله عليه وسلم وهو واقف على راحلته بالحَزْوَرَة مِنْ مَكَّةَ يَقُول: ((وَاللَّه إِنَّك لَخَيْرُ أَرضِ اللَّهِ وَأحَبُّ أرْضِ اللَّهِ إِلًى اللَّهِ، وَلَوْلاَ أنِّي أخْرِجْتُ مِنْكَِ مَاَخَرَجْتُ)) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.


بل وَمِن خصائصها كونُها قبلةً لأهل الأرض كلِّهم، فليس على وجه الأرض قبلةٌ غيرُها.

ومِن خواصها أيضاً أنه يحرم استقبالُها واستدبارُها عند قضاء الحاجة دون سائر بِقاع الأرض.


وأصح المذاهب في هذه المسألة: أنه لافرق في ذلك بين الفضاء
والبنيان، لبضعة عشر دليلاً قد ذُكِرت في غير هذا الموضع،وليس مع المفرق ما
يُقاومها البتة، مع تناقضهم في مقدار الفضاء والبنيان، وليس هذا موضعَ
استيفاء الحِجَاج من الطرفين.

(يتبع...)

[/center]
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://devl.123.st
sasuke
المشرف العام
المشرف العام
sasuke


عدد المساهمات : 459
الموقع : عالم كونوها

 زاد المعاد في هدي خير العباد  Empty
مُساهمةموضوع: رد: زاد المعاد في هدي خير العباد     زاد المعاد في هدي خير العباد  Icon_minitimeالأربعاء أكتوبر 10, 2012 2:36 pm

ومن
خواصها أيضاً أن المسجدَ الحرامَ أولُمسجد وضع في الأرض، كما في
((الصحيحين)) عن أبي ذر قال: سألتُ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم عَنْ
أوّل مَسجد وُضِعَ في الأرض؟ فقال: ((المَسْجد الحَرَامُ))قُلْتُ: ثُمَّ أي؟ قَالَ: ((المَسْجَدُ الأِّقْصَى)) قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟قَالَ: ((أرْبَعُونَ عَامَاً))
وقد أشكل هذا الحديث على من لم يعرفِ المرادَ به،فقال: معلوم أن سليمان
بنَ داود هو الذي بنى المسجد الأقصى، وبينه وبين إبراهيم أكثر من ألف عام،
وهذا من جهل هذا القائلِ، فإن سليمان إنما كان له مِن المسجَدالأقصى
تجديدُه، لا تأسيسُه، والذي أسسه هو يعقوب بن إسحاق صلى اللّه عليهماوآلهما
وسلم بعد بناء إبراهيم الكعبة بهذا المقدار.





ومما يدل على تفضيلها أن اللّه تعالى أخبر أنها أمُّ القرى، فالقرى
كلُها تبع لها، وفرعٌ عليها، وهي أصلُ القرى، في جبألاَّ يكون لها في
القُرى عَدِيل، فهي كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن(الفاتحة) أنها
أمُّ القرآن ولهذا لم يكن لها في الكتب الإِلهية عديلٌ.





ومن خصائصها أنها لا يجوزُ دخولُها لغير أصحاب الحوائج
المتكررة إلا بإحرام، وهذه خاصية لا يُشاركها فيها شيءٌ من البلاد، وهذه
المسألةُ تلقاها الناسُ عن ابن عباس رضي اللّه عنهما، وقد روي عن ابن عباس
بإسناد لا يحتج به مرفوعاً ((لا يَدْخُلُ أَحَدٌ مَكَّةَ إلاَّبِإحْرَامٍ، مِنْ أَهْلِهَا وَمِنْ غَيرِ أَهْلِهَا)) ذكره أبو أحمد بن عدي، ولكن الحجاج بن أرطاة في الطريق، وآخر قبله من الضعفاء.





وللفقهاء في المسألة ثلاثةُ أقوال:النَّفْيُ، والإِثباتُ، والفرقُ
بين من هو داخلُ المواقيتِ ومن هو قبلَها، فمن قبلها لا يُجَاوزها إلا
بإحرام، ومن هو داخلها، فحكمُه حكمُ أهل مكَّة، وهو قول أبي حنيفة،
والقولان الأولان للشافعي وأحمد.
ومِن خواصِّه أنه يُعاقب فيه على الهمِّ بالسيئات وإن لم يفعلها، قال تعالى{وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}
[الحج: 25]فتأمل. كيف عدى فعل الإِرادة هاهنا بالباء، ولا يقال: أردتُ
بكذا إلا لما ضمِنَّ معنى فعل ((هم)) فإنه يقال: هممت بكذا، فتوعدَ من هم
بأن يَظلم فيه بأن يُذيقه العذَابَ الألِيم.





وَمِن هذا تضاعفُ مقادير السيئات فيه، لا
كمياتُها، فإن السيئة جزاؤها سيئة، لكن سيئة كبيرة،وجزاؤها مثلها، وصغيرة
جزاؤها مثلها، فالسيئة في حَرَمِ اللّه وبلده وعلى بساطهآكدُ وأعظمُ منها
في طرف من أطراف الأرض، ولهذا ليس من عصى الملكَ على بساط مُلكه كمن عصاه
في الموضع البعيد من داره وبِساطه، فهذا فصلُ النزاع في تضعيف
السيئات،واللّه أعلم.





وقد ظهرسرُّ هذا التفضيل والاختصاص في
انجذاب الأفئدة، وهوى القلوب وانعطافها ومحبتها لهذا البلدِ الأمين، فجذبُه
للقلوب أعظمُ من جذب المغناطيس للحديد، فهو الأولى بقول القائل:




مَحَاسِنُهُ هَيُولَى كُلِّ حُسْنٍ وَمَغْنَاطِيسُ أفْئدَةِ الرِّجَالِ




ولهذا أخبر سبحانه أنه مثابةٌ للناس،أي: يثوبون إليه على تعاقب
الأعوام من جميع الأقطار، ولا يَقضون منه وطراً، بلكلما ازدادوا له زيارة،
ازدادوا له اشتياقا.




لاَيَرْجِعُ الطَّرْفُ عَنْهَا حِينَ يَنْظُرُها حَتَّى يَعُود إلَيْهَا الطَّرْفُ مُشْتَاقاً




فلله كم لها مِن قتيل وسليبٍ وجريح، وكمأُنفِقَ في حبها من الأموال
والأرواح، وَرَضِيَ المحب بمفارقةِ فِلَذِ الأكباد والأهل، والأحباب
والأوطان، مقدِّماً بين يديه أنواع المخاوف والمتالف، والمعاطف والمشاق،
وهو يستلِذُ ذلك كلَّه ويستطيبُه، ويراه - لو ظهر سلطانُ المحبة في
قلبه-أطيب من نِعَمِ المتحلية وترفهم ولذاتهم.




وَلَيْسَ مُحِبًّا مَنْ يَعُدُ شَقَاءَه عَذَابَاً إِذَا مَا كَانَ يَرْضَى حَبيبُهُ



وهذا كلُّه سرُّ إضافته إليه سبحانه وتعالى بقوله: { أَن طَهّرَا بَيْتِيَ
} [الحج: 26] فاقتضت هذه الإِضافة الخاصة من هذا الإِجلال والتعظيم
والمحبة مَا اقتضته، كما اقتضت إضافته لعبده ورسوله إلى نفسه ما اقتضته من
ذلك، وكذلك إضافته عبادَه المؤمنين إليه كستهم من الجلال والمحبة والوقار
ما كستهم، فكلُّ ما أضافه الرَّبُّ تعالى إلى نفسه، فله من المزية
والاختصاص على غيره ما أوجب له الاصطفاءَ والاجتباءَ، ثم يكسوه بهذه
الإِضافة تفضيلاً آخر، وتخصيصاً وجلالة زائداً على ما كان له قبل الإِضافة،
ولم يُوفق لفهم هذا المعنى من سوَّى بين الأعيان والأفعال، والأزمان
والأماكن، وزعم أنه لا مزية لشيء منها على شيء، وإنما هو مجرد الترجيح بلا
مرجح، وهذا القول باطل بأكثر من أربعين وجهاً قد ذكرت في غير هذا الموضع،
ويكفي تصوُرُ هذا المذهب الباطلِ في فساده، فإن مذهباً يقتضي أن تكون ذواتُ
الرسل كذوات أعدائهم في الحقيقة، وإنما التفضيل بأمر لا يرجع إلى اختصاص
الذوات بصفات ومزايا لا تكون لغيرها، وكذلك نفسُ البقاع واحدة بالذات ليس
لبقعة على بُقعة مزية البتة، وإنما هو لما يَقع فيها من الأعمال الصالحة،
فلا مزية لبقعة البيت، والمسجد الحرام، ومِنى وعرفة والمشاعر على أي بقعة
سميتها من الأرض، وإنما التفضيلُ باعتبار أمر خارج عن البقعة لا يعودُ
إليها، ولا إلى وصف قائم بها، واللّه سبحانه وتعالى قد رد هذا القولَ
الباطلَ بقوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ
قَالُواْ لَن نّؤْمِنَ حَتّىَ نُؤْتَىَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ
اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الّذِينَ
أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ
يَمْكُرُونَ
} [الأنعام: 124] أي: لَيس كلُّ أحد أهلاً ولا صالحاً
لتحمُّل رسالته، بل لها محالٌّ مخصوصة لا تليق إلا بها، ولا تصلح إلا لها،
واللّه أعلم بهذه المحالِّ منكم. ولو كانت الذواتُ متساوية كما قال هؤلاء،
لم يكن في ذلك ردٌ عليهم، وكذلك قولُه تعالى: {وَكَذَلِكَ
فَتَنّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لّيَقُولوَاْ أَهَؤُلاءِ مَنّ اللّهُ
عَلَيْهِم مّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشّاكِرِينَ
}
[الأنعام: 53] أي: هو سبحانه أعلمُ بمن يشكره على نعمته، فيختصهبفضله،
وَيَمُنُّ عليه ممن لا يشكره،فليس كلُّ محلٍ يصلح لشكره، واحتمال
منته،والتخصيص بكرامته.





فذواتُ ما اختاره واصطفاه من الأعيان والأماكن والأشخاص وغيرها
مشتَمِلَة على صفات وأمور قائمة بها ليست لغيرها،ولأجلها اصطفاها اللَّهُ،
وهو سبحانه الذي فضلها بتلك الصفاتِ، وخصها بالاختيار،فهذا خلقُه، وهذا
اختياره {وَرَبّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ
} [القصص:67]، وما أبين بطلانَ رأْيَ يقضي بأن مكان البيت الحرام مساوٍ
لسائر الأمكنة،وذاتَ الحجر الأسود مسَاويةٌ لسائر حجارة الأرض، وذاتَ رسول
اللّه. مساويةٌ لذات غيره، وإنما التفضيلُ في ذلك بأمور خارجة عن الذات
والصفات القائمة بها، وهذه الأقاويل وأمثالُها من الجنايات التي جناها
المتكلمون على الشريعة، ونسبوها إليها وهي بريئة منها، وليس معهم أكثرُ من
اشتراك الذوات في أمر عام، وذلك لا يوجب تساويها في الحقيقة، لأن
المختلفاتِ قد تشترِك في أمر عام مع اختلافها في صفاتها النفسية، وما سوَّى
اللَّهُ تعالى بين ذات المِسك وذاتِ البول أبداً، ولا بين ذات الماء وذات
النَّار أبداً، والتفاوتُ البَيِّنُ بَيْنَ الأمكنة الشريفة
وأضدادها،والذواتِ الفاضلة وأضدادها أعظمُ من هذا التفاوت بكثير، فبين ذاتِ
موسى عليه السلام وذاتِ فرعون من التفاوت أعظمُ مما بين المسك
والرجيع،وكذلك التفاوتُ بين نفس الكعبة، وبين بيت السلطان أعظمُ من هذا
التفاوت أيضاً بكثير، فكيف تُجْعَلُ البقعتان سواءً في الحقيقة والتفضيل
باعتبار ما يقع هناك من العبادات والأذكار والدعوات؟!





ولم نقصِدِ استيفاءَ الردِّ على هذا المذهب المردودِ المرذول، وإنما
قصدنا تصويرَه، وإلى اللبيب العادل العاقل التحاكُم، ولا يَعبأ اللّه
وعبادُه بغيره شيئاً، واللّه سبحانه لا يُخصصُ شيئاً،ولا يُفضله ويرجحه إلا
لمعنى يقتضي تخصيصَه وتفضيله، نعم هو معطي ذلك المرجح وواهبُه، فهو الذي
خلقه، ثم اختاره بعد خلقه، وربُّك يخلق ما يشاءُ ويختار.


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://devl.123.st
sasuke
المشرف العام
المشرف العام
sasuke


عدد المساهمات : 459
الموقع : عالم كونوها

 زاد المعاد في هدي خير العباد  Empty
مُساهمةموضوع: رد: زاد المعاد في هدي خير العباد     زاد المعاد في هدي خير العباد  Icon_minitimeالأربعاء أكتوبر 10, 2012 2:37 pm

وَمِن
هذا تفضيلُه بعض الأيام والشهور على بعض، فخير الأيام عند اللّه يومُ
النحر، وهو يومُ الحج الأكبر كما في((السنن)) عنه صلى الله عليه وسلم أنه
قال: ((أَفْضَلُ الأيَّامِ عِنْدَ اللَهِ يَوْمُ النَّحْرِ، ثُمَّ يَوْمُ القَرِّ)).
وقيل: يومُ عرفة أفضلُ منه، وهذا هوالمعروف عند أصحاب الشافعي، قالوا:
لأنه يومُ الحج الأكبر، وصيامُه يكفر سنتين،ومَا مِنْ يَوْمٍ يَعْتِقُ
اللَّهُ فِيهِ الرِّقابَ أَكثَرَ مِنهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، ولأنه سبحانه
وتعالى يَدْنُو فِيهِ مِنْ عِبَادِه، ثُمَّ يُبَاهِي مَلاَئِكَتَه بِأَهْلِ
الموقف. والصواب القول الأول، لأن الحديثَ الدالَّ على ذلك لا يُعارضه شيء
يُقاومه، والصوابُ أن يومَ الحج الأكبر هو يومُ النَّحر، لقوله تعالى: {وَأَذَانٌ مّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النّاسِ يَوْمَ الْحَجّ الأكْبَرِ}
[التوبة: 3] وثبت في ((الصحيحين)) أن أبا بكر وعلياً رضي اللّه عنهما
أَذَّنَا بِذَلِكَ يَوْمَ النَّحْرِ، لاَ يَومَ عَرَفَةَ. وفي ((سنن أبي
داود))بأصح إسناد أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: ((يوم الْحَجِّ
الأكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ))، وكذلك قال أبو هريرة، وجماعةٌ من الصحابة،
ويومُ عرفة مقدِّمة ليوم النَّحر بين يديه، فإن فيه يكونُ الوقوفُ،
والتضرعُ، والتوبةُ، والابتهالُ،والاستقال ةُ، ثم يومَ النَّحر تكون
الوفادةُ والزيارة، ولهذا سمي طوافُه طوافَ الزيارة، لأنهم قد طهروا من
ذنوبهم يوم عرفة، ثم أذن لهم ربُّهم يوم النَّحر في زيارته، والدخولِ عليه
إلى بيته، ولهذا كان فيه ذبحُ القرابين، وحلقُ الرؤوس،ورميُ الجمار، ومعظمُ
أفعال الحج، وعملُ يوم عرفة كالطهور والاغتسال بين يدي هذااليوم. وكذلك
تفضيل عشر ذي الحجة على غيره من الأيام، فإنَّ أيامه أفضلُ الأيامِ عند
اللّه، وقد ثبت في ((صحيح البخاري)) عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال: قال
رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: ((مَا مِنْ أَيَّامٍ العَمَلُ الصَّالح فِيهَاأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هذه الأيَّامِ العَشْرِ)) قَالُوا: وَلاَ الجِهَادُ فيسَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: ((وَلاَ الجِهَادُ في سَبِيلِ اللَّهِ، إِلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ ومَالِهِ، ثُمَّ لَمْ يَرْجعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيءٍ)) وهي الأيامُ العشر التي أقسم اللّه بها في كتابه بقوله: {وَالْفَجْرِ * وَلَيالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 1-2] ولهدا يُستحب فيها الإِكثارُ من التكْبِير والتهليل والتحميدِ،كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((فَأكْثرُوا فِيهِنَّ مِنَ التكْبِيرِ وَالتَّهْلِيل وَالتَحْمِيدِ))، ونسبتُهَا إلى الأيام كنسبة مواضع المناسك في سائر البقاع.




وَمِنْ ذَلك تفضيلُ شهر رمضان على سائر الشهور، وتفضيلُ عشرِهِ الأخير على سائر الليالي، وتفضيلُ ليلة القدر على ألف شهر.




فإن قلت: أيُّ العَشرين أفضلُ؟ عَشرُ ذي الحِجَّة، أو العشرُ الأخير
من رمضان؟ وأيُّ الليلتين أفضلُ؟ ليلةُ القدرِ، أوليلة الإِسراء؟




قلت: أمّا السؤالُ الأول، فالصوابُ
فيه أن يقالُ: ليالي العشر الأخير من رمضان، أفضلُ من ليالي عشر ذي الحجة،
وأيَّام عشر ذي الحِجَّة أفضلُ من أيام عشر رمضان، وبهذا التفصيلِ يزول
ُالاشتباه، ويدل عليه أن لياليَ العشر من رمضان إنما فُضِّلَتْ باعتبار
ليلة القدر،وهي من الليالي، وعشرُ ذيَ الحِجَّة إنما فُضِّلَ باعتبار
أيامه، إذ فيه يومُ النحر، ويومُ عرفة، ويوم التروية.

وأما السؤال الثاني،
فقد سُئِلَ شيخُ الإِسلام ابن تيمية رحمه اللّه عن رجل قال: ليلةُ
الإِسراء أفضلُ مِن ليلة القدر،وقال آخر: بل ليلةُ القدر أفضلُ،
فَأَيُّهُما المصيبُ؟





فأجاب: الحمدُ للَّهِ، أما القائلُ بأن ليلة الإِسراء أفضلُ مِن ليلة
القدر، فإن أراد به أن تكونَ الليلةُ التي أسري فيها بالنبي صلى الله عليه
وسلم ونظائِرُها مِن كل عام أفضلَ لأمَّة محمد صلى الله عليه وسلم مِن
ليلة القدر بحيث يكونُ قيامُها والدعاءُ فيها أفضلَ منه في ليلةِ
القدر،فهذا باطل، لم يقله أحدٌ من المسلمين، وهو معلومُ الفساد بالاطِّراد
من دين الإِسلام. هذا إذا كانت ليلةُ الإِسراء تُعرف عينُها، فكيف ولم
يقمْ دليلٌ معلوم لا على شهرها، ولا على عشرها، ولا على عينِها، بل النقولُ
في ذلك منقطعةٌ مختلفة،ليس فيها ما يُقطع به، ولا شُرِعَ للمسلمين تخصيصُ
الليلة التي يُظن أنها ليلة الإِسراء بقيام ولا غيره، بخلاف ليلة القدر،
فإنه قد ثبت في ((الصحيحين)) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((تَحَرَّوْا لَيْلَةَ القَدْرِ في العَشْرِالأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضانَ)) وفي ((الصحيحين)) عنه صلى الله عليه وسلم أنه قالSad(مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَاناً واحْتِسَاباً، غُفِرَ لَهُ مَاتَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ))، وقد أخبر سبحانه أنها خيرٌ مِن ألف شهر، وأنَّه أنزل فيها القرآن.





وإن أراد أن الليلة المعينة التي أسري فيها بالنبي صلى الله عليه
وسلم، وحصل له فيها ما لم يحصلْ له في غيرها مِن غير أن يُشرع تخصيصها
بقيام ولا عبادة، فهذا صحيح، وليس إذا أعطى اللَهُ نبيه صلى الله عليه وسلم
فضيلة في مكان أو زمان، يجب أن يكون ذلك الزمان والمكانُ أفضلَ مِن جميع
الأمكنة والأزمنة. هذا إذا قدر أنه قام دليل على أن إنعامَ اللّه تعالى على
نبيه ليلَة الإِسراءِ كان أعظمَ من إنعامه عليه بإنزال القرآنِ ليلةَ
القدر، وغيرِ ذلك من النعم التي أنعم عليه بها.





والكلام في مثل هذا يحتاج إلى علم بحقائق الأُمور، ومقادير النعم
التي لا تُعرف إلا بوحي، ولا يجوز لأحد أن يتكلم فيها بلا علم، ولا يُعرف
عن أحد من المسلمين أنه جعل لليلة الإِسراءِ فضيلةَ على غيرها، لا سيما على
ليلة القدر، ولا كان الصحابةُ والتابعون لهم بإحسان يقصدُون تخصيص ليلة
الإِسراء بأمر من الأمورِ، ولا يذكرونها، ولهذا لا يُعرف أي ليلة كانت،وإن
كان الإِسراءُ مِن أعظم فضائله صلى الله عليه وسلم، ومع هذا فلم يُشرع
تخصيصُ ذلك الزمانِ، ولا ذلك المكانِ بعبادة شرعية، بل غارُ حراء الذي
ابتدئ فيه بنزول الوحي، وكان يتحراه قبلَ النبوة، لم يقصِدْهُ هو ولا أحدٌ
مِن أصحابه بعد النبوة مدةَ مُقامه بمكة، ولا خصَّ اليومَ الذي أنزل فيه
الوحي بعبادة ولا غيرِها، ولاخصَّ المكانَ الذي ابتدئ فيه بالوحي ولا
الزمانَ بشيء، ومن خص الأمكنَة والأزمنَة من عنده بعبادات لأجل هذا
وأمثاله، كان مِن جنس أهل الكتاب الذين جعلوا زمانَ أحوال المسيح مواسمَ
وعبادات، كيوم الميلاد، ويوم التعميد، وغير ذلك من أحواله.وقد رأى عمرُ بن الخطاب رضي اللّه عنه جماعة يتبادرون مكاناً يُصلون فيه، فقال: ماهذا؟ قالوا: مكانٌ صلى فيه رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم، فقال: أتُريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد؟! إنما هلكَ مَنْ كان قبلكم بهذا، فمن أدركته فيه الصلاة فليصل، وإلا فليمضِ.





وقد قال بعضُ الناس: إن ليلة الإِسراء في حق النبي صلى الله عليه
وسلم أفضل مِن ليلة القدر، وليلة القدر بالنسبة إلى الأمّة أفضلُ من ليلة
الإِسراء، فهذه الليلة في حق الأمّة أفضلُ لهم، وليلة الإِسراء في حق رسول
اللّه صلى الله عليه وسلم،أفضلُ له.





فإن قيل: فأيهما أفضلُ: يوم الجمعة، أو يوم عرفة؟ فقد روى
ابن حبان في ((صحيحه)) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى الله
عليه وسلم.((لاَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ وَلاَ تَغْرُبُ عَلَى يَوْمٍ أَفْضَلَ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ)) وفيه أيضاً حديث أوس بن أوس ((خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْس يَوْمُ الجُمْعَةِ)).





قيل: قد ذهب بعضُ العلماء إلى تفضيل يوم الجمعة
على يوم عرفة، محتجاً بهذا الحديث، وحكى القاضي أبويعلى رواية عن أحمد أن
ليلة الجمعة أفضلُ من ليلة القدر، والصوابُ أن يوم الجمعة أفضلُ أيام
الأسبوع، ويومَ عرفة ويوم النَّحر أفضلُ أيام العام، وكذلك ليلةُ القدر،
وليلة الجمعة، ولهذا كان لوقفة الجمعة يومَ عرفة مزية على سائر الأيام
منوجوه متعدّدة.




أحدها: اجتماعُ اليومين اللذين هماأفضلُ الأيام.




الثاني: أنه اليومُ الذي فيه ساعة محققة الإِجابة، وأكثر الأقوال
أنها آخر ساعة بعد العصر وأهل الموقف كلُّهم إذ ذاك واقفون للدعاء والتضرع.




الثالث: موافقتُه ليوم وقفة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم.




الرَّابع: أن فيه اجتماعَ الخلائق مِن أقطار الأرض للخطبة وصلاة
الجمعة، ويُوافق ذلك اجتماعَ أهل عرفة يومَ عرفة بعرفة،فيحصُل مِن اجتماع
المسلمين في مساجدهم وموقفهم من الدعاء والتضرع ما لا يحصُل فييوم سواه.





الخامس: أن يوم الجمعة يومُ عيد، ويومَ عرفة يومُ عيد لأهل عرفة،
ولذلك كره لمن بعرفة صومه، وفي النسائي عن أبي هريرة قال: ((نَهَى رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ))، وفي
إسناده نظر، فإن مهدي بن حرب العبدي ليس بمعروف، ومداره عليه،ولكن ثبت في
الصحيح من حديث أم الفضل ((أن ناساً تمارَوْا عِنْدَهَا يَوْمَ عَرفَةَ في
صِيَام رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فقال بعضُهم: هُوَصَائِمٌ،
وَقَالَ بعْضُهُمْ: لَيْسَ بِصَائِمٍ فَأَرْسَلَتْ إلَيْهِ بقَدَحِلَبنٍ،
وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ بِعَرَفَةَ، فَشَربَهُ)).


وقد اختلف في حكمة استحباب فطر يوم عرفةبعرفة، فقالت طائفة: لِيتقوى
على الدعاء، وهذا هو قولُ الخِرقي وغيره، وقال غيرهم- منهم شيخ الإِسلام
ابن تيمية -: الحِكمة فيه أنه عيد لأهل عرفة، فلا يُستحبصومُه لهم، قال:
والدليلُ عليه الحديث الذي في ((السنن)) عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:
((يَوْمُ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ النَّحْرِ، وَأيَّامُ مِنَى عِيدُنَا أهلَ الإِسلامِ)).





قال شيخنا: وإنمايكون يومُ عرفة عيداً في حق
أهلِ عرفة، لاجتماعهم فيه، بخلاف أهل الأمصار، فإنهم إنما يجمعون يوم
النَحر، فكان هو العيدَ في حقهم، والمقصود أنه إذا اتفق يومُ عرفة، ويومُ
جمعة، فقد اتفق عيدانِ معاً.





السادس: أنه موافق ليوم إكمال اللّه تعالى دينَه لعباده المؤمنين،
وإتمامِ نعمته عليهم، كما ثبت في ((صحيح البخاري))عن طارق بن شهاب قال:
جاء يهوديٌ إلى عمرَ بنِ الخطاب فقال: يَا أَمِيرَالمُؤمِنِين آيَةٌ
تَقْرَؤونَهَا في كِتَابِكُمْ لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ اليَهُودِ نَزَلَتْ
وَنَعْلَمُ ذَلِكَ اليَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ، لاتَّخَذْنَاهُ
عِيداً، قَالَ: أيُ آَيَةٍ؟ قَالَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً}[المائدة:3]
فَقَالَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ: إِنِّي لأَعْلَمُ الْيَوْمَ الَّذِي
نَزَلَتْ فِيهِ، وَالمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ، نَزَلَتْ عَلَى
رَسُول ِاللَّهِ صلى الله عليه وسلم. بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ، وَنَحْنُ
وَاقِفُونَ مَعَهُ بِعَرَفَةَ.





السابع: أنه موافق ليوم الجمع الأكبر،والموقفِ الأعظم يومِ
القيامة، فإن القيامة تقومُ يومَ الجمعة، كما قال النبي صلى الله عليه
وسلم: ((خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ
يَوْمُ الجُمُعَةِ،فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُدْخِلَ الجَنَّةَ،
وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا،وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ، وَفِيهِ سَاعَةٌ لاَ
يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللَّهَ خَيْرَاً إِلاَّ أَعْطَاهُ
إِيَّاهُ
)) ولهذا شرع اللَّهُ سبحانه وتعالى لِعباده يوماً يجتمعون
فيه، فيذكرون المبدأ والمعاد، والجنَّة والنَّار،وادَّخر اللَّهُ تعالى
لهذه الأُمَّة يومَ الجمعة، إذ فيه كان المبدأُ، وفيه المعادُ، ولهذا كان
النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقرأ في فجره سورتي (السجدة) و (هل أتى على
الإِنسان ) لاشتمالهما على ما كان وما يكونُ في هذا اليوم، مِن خلق
آدم،وذكر المبدأ والمعاد، ودخولِ الجنَّة والنَّار، فكان تذَكِّرُ الأمَّة
في هذااليوم بما كان فيه وما يكون، فهكذا يتذكَّر الإِنسانُ بأعظم مواقف
الدنيا - وهويومُ عرفة - الموقفَ الأعظم بين يدي الرب سبحانه في هذا اليوم
بعينه، ولا يتنصف حتى يستقرَّ أهل الجنة في منازلهم، وأهل الناَّر في
منازلهم.





الثامن: أن الطاعةَ الواقِعَة مِن المسلمين يومَ الجُمعة، وليلةَ
الجمعة، أكثر منها في سائر الأيام، حتى إن أكثرَأهل الفجور يَحترِمون يوم
الجمعة وليلته، ويرون أن من تَجَرَّأ فيه على معاصي اللَّهِ عز وجل، عجَّل
اللَّهُ عقوبته ولم يُمهله، وهذا أمر قد استقرَّ عندهم وعلموه بالتجارِب،
وذلك لِعظم اليومِ وشرفِهِ عند اللّه، واختيارِ اللّه سبحانه له من بين
سائر الأيام، ولا ريب أن للوقفة فيه مزيةً على غيره.




التاسع: أنه موافق ليوم المزيد في الجنة، وهو اليومُ الذي يُجمَعُ
فيه أهلُ الجنة في وادٍ أَفْيحَ، ويُنْصَبُ لهم مَنَابِرُ مِن لؤلؤ،
ومنابِرُ من ذهب، ومنابرُ من زَبَرْجَدٍ وياقوت على كُثبَانِ المِسك،
فينظرون إلى ربِّهم تبارك وتعالى، ويتجلى لهم، فيرونه عِياناً ويكون
أسرعُهم موافاة أعجلَهم رواحاً إلى المسجد، وأقربُهم منه أقربَهم من
الإِمام،فأهلُ الجنة مشتاقون إلى يوم المزيد فيها لما ينالون فيه من
الكرامة، وهو يوم جمعة، فإذا وافق يوم عرفة، كان له زيادةُ مزية واختصاص
وفضل ليس لغيره.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://devl.123.st
 
زاد المعاد في هدي خير العباد
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات عالم كونوها :: قسم الاسلامية :: المنتدى الإسلامي العام :: الدعوة والإرشاد-
انتقل الى: