sasuke المشرف العام
عدد المساهمات : 459 الموقع : عالم كونوها
| موضوع: إرشاد الخائف من ربه إلى معرفة حكم البناء على القبور في السُّنَّة الأربعاء أكتوبر 10, 2012 2:33 pm | |
| «الورقات - الدمام»:الحمد لله الملك المجيد، القوي العزيز، الذي بيده أزمة الأمور ومقاليدها، وبإرادته حصول الأسباب والمسببات ومفاتيحها، وتبارك من لم يشاركه في الخلق والرزق والتدبير أحد من العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، ولا ضد ولا نظير ولا معين، كاشف الشِّدات، وفارج الكربات، وميسِّر المعضلات، ودافع المشكلات، ومزيل البليَّات، ومجيب الدعوات، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، النبي القرشي الكريم، والإمام المصطفى الجليل، أفضل داع إلى الله، وأخشاهم له وأتقى، فاللهم صل عليه، وعلى آل بيته وأصحابه وأتباعه في الأقوال والأفعال والاعتقادات، وسَلِّمْ تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد: أيها المسلم الكريم ـ سددك الله وزادك بصيرة بدينه: فقد أخرج البخاري (3456) ومسلم (3669) في "صحيحيهما" عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دخلوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدخلتموه، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ فَمَنْ )). وفي هذا الحديث الثابت الصحيح يُعْلِم النبي صلى الله عليه وسلم أمته ويخبرها بأنه سيقع من بعضها الاقتداء والمتابعة والموافقة لأعدائها، وأعداء دينها، وأعداء كتابها، وأعداء رسولها، من اليهود وإخوانهم من النصارى في كل شيء، وكل أمر، نهى عنه الله ورسوله وزجرا، وجاء في الشريعة ذم فاعليه، وتقبيح أهله، وتحذير مرتكبيه.
بل إن شدَّة هذا الاقتداء، وكِبَر هذه التَّبَعِية، وغِلظ الموافقة لهم قد وصلت إلى حَدِّ أن أحدهم لو أراد أن يُدخل جسده الطويل العريض في جُحْر ضَبٍّ لكان في هذه الأمة من يفعل فعله، ويسلك سبيله، ويمشي على طريقته، ويسير سيره، ويقتفي أثره. أيها المسلم الكريم ـ زادك الله بصيرة ورشداً:إن من قلَّب نظره في واقع المسلمين اليوم، وشرَّق به في بلادهم وغرَّب، ثم أشْمَل وأجْنَب، ودقَّق فيما يشاهده ويراه ويسمعه، وتأمل فيما ما حوله وما يَقْرب منه، فسيجد أن ما ورد في هذا الحديث والخبر النبوي قد أصبح واقعاً حقيقياً، وأمراً ظاهراً، وفعلاً ملموساً، وشيئاً فاشياً لا مندرساً ولا مهجوراً، وعَلَمَاً من أعلام نبوة قائله الدالة على صدقه، وأنه مرسل من عند الله تعالى إلى خلقه من الإنس والجن.
وهذا مثال واحد من بين عشرات بل مئات من الأمثلة الواقعة الظاهرة الفاشية في جُلِّ مجتمعات هذه الأمة تؤكد متابعتها لليهود والنصارى في أفعالهم، وتصدِّق ما جاء في هذا الحديث النبوي، وتزيد في خوف المؤمن البَرِّ التقي، إذ أخرج البخاري (435و436) ومسلم (531) في "صحيحيهما" أن عائشة وعبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قالا: (( لَمَّا نُزَلَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يعني: نَزل به الموت ـ طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً لَهُ عَلَى وَجْهِهِ فَإِذَا اغْتَمَّ كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ وَهُوَ كَذَلِكَ يَقُولُ: لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ، يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا )). وأخرج الإمام مسلم (532) في "صحيحه" عن جُنْدَب بن عبد الله البَجَلي ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: (( إِنِّي أَبْرَأُ إِلَى اللَّهِ أَنْ يَكُونَ لِي مِنْكُمْ خَلِيلٌ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدِ اتَّخَذَنِي خَلِيلاً كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلاً لاَتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلاً، أَلاَ وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ أَلاَ فَلاَ تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ )).
وأخرج البخاري (434) ومسلم (528) واللفظ له، عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن أم حبيبة وأم سلمة ـ رضي الله عنهما ـ ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إِنَّ أُولَئِكِ إِذَا كَانَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، أُولَئِكِ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )).
وصَحَّ في "مسند الإمام أحمد" (1691و 1694) عن أبي عُبيدة بن الجراح ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: (( آخِرُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَخْرِجُوا يَهُودَ أَهْلِ الْحِجَازِ وَأَهْلِ نَجْرَانَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ شِرَارَ النَّاسِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ )). وثبت في "مسند الإمام أحمد" (4143و3844) وعند ابن خزيمة (789) وابن حبان (6847) عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( إِنَّ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكُهُ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، وَمَنْ يَتَّخِذُ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ )).
أيها المسلم الكريم ـ سلَّمك الله من الشرور وعافاك:إن من سافر إلى بقاع شتى من بلاد المسلمين، وقلَّب بصره في بعض مساجدها أو مقابرها فسيرى مخالفة جُموع كثيرة من أهلها لرسولهم صلى الله عليه وسلم، ومتابعتهم لأعدائه وأعدائهم من اليهود والنصارى في شأن القبور، إذ سيراهم قد بنوا على قبر من مات من العلماء أو العُبَّاد أو الدعاة أو المقرئين أو الوجهاء أو الزعماء مسجداً، أو دفنوهم في المساجد، فهذا قد جُعل قبره في قبلة المسجد، وذاك جُعل قبره في وسط المسجد، وثالث جُعل قبره في ميمنة المسجد، ورابع جُعل قبره في ميسرة المسجد، وخامس جُعل قبره في مؤخرة المسجد، وسادس جُعل قبره في باحة المسجد وساحته.
وآخر قد بُنيت على قبره قبة صغيرة أو كبيرة، أو عُمِّرت عليه حجرة أو جُعلت عليه مقصورة، وهو مَحوط بالأعمدة والسياجات والستور والأقمشة والرِّقاع، وزُخرف بالرخام المتلألئ، وزُيِّن بالنقوش متعددة الأشكال، وكتبت عليه الآيات والأحاديث والكلمات والأشعار والمآثر بأحسن الخطوط، وأجمل الألوان، وحُلَّيَت سياجاته وستوره وأقمشته بألوان مذهبة، ورُصِّعَت بما يزينها ويجملها ويحسنها للمرتادين والناظرين. أما كفي هؤلاء نهي النبي صلى الله عليه وسلم لهم عن ذلك؟ أما زجرهم أن نهيه هذا قد استمر إلى لحظات الموت، وقُرب سكراته ونزعاته؟. أما أفزع قلوب هؤلاء لعنة الله لليهود والنصارى لأنهم اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد؟. أما جعل أفئدتهم ترتجف، وجلودهم ترتعش حكم النبي صلى الله عليه وسلم على من يبنون المساجد على القبور بأنهم شرار الخلق عند الله يوم القيامة؟. أما أيقظ هؤلاء من غفلتهم، وأبعد تغافلهم هذه الأحاديث النبوية المتعددة المتكاثرة؟. أما بصَّرتهم ببشاعة وشناعة وقبح صنيعهم هذا؟. أما أظهرت لهم أنهم في هذا الباب ليسوا بتبع ولا متابعين لعبد الله ورسوله الصادق المصدوق محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، بل تبع وأتباع لليهود وإخوانهم وأعوانهم من النصارى؟.
أيها المسلم الكريم ـ فقهك الله وجمَّلك بالعلم: إن هدي النبي صلى الله عليه وسلم وحكمه وطريقه جهة القبور مشهور معلوم، ومعروف مستفيض، جلي لا خفاء فيه، ظاهر لا غموض يكتنفه، مبسوط في كتب الحديث والسنة منثور، تصله يد الذكر والأنثى، ولا يصعب استخراجه على المميز الصغير ولا على الشَّاب ولا على الكبير الطاعن في السن، ولا يستعصي فهمه على أمي لا يقرأ ولا يكتب، ولا على ماهر بالقراءة والكتابة.
إن هذا الهدي القويم، والحكم الواضح المبين، والطريق المستقيم، هو: تحريم البناء على القبور، وهدم ما كان مبنياً منها، وتسويته بالأرض، وأن لا ترفع عن الأرض إلا بمقدار شبر، ليَعرِفَ من مرَّ بها أنها قبور فلا يدوسها ولا يمتهنها، ويدعو لأهلها بالمغفرة والسلامة من العذاب.
ومن هديه الواضح جهتها، وحكمه البيِّن فيها: النهي عن تزيينها وتجميلها وتزويقها بالجص وغيره من المجمِّلات، والنهي عن كتابة الآيات والكلمات والمدائح عليها، والنهي عن إيقادها بالسرج والمصابيح.
فإن عميت أبصار عن هذا الهَدي والهُدى، وهذا الحكم الطيب المرتضى، والسبيل القويم المجتبى، وتنكَّبت له أنوف، ونفرت عنه نفوس، ولم تنقد وتنشرح إليه صدور وتذعن، فمن عند أنفسها، هي المتسببة، وهي المخطئة، وهي المتضررة، وعليها الخسارة والبوار، والإثم والعوار، والأمر كما قال ربها ـ عز وجل: { فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ }.
وقد أخرج الإمام مسلم في "صحيحه"(968) عن أبي الْهَيَّاجِ الأَسَدي أنه قال: قال لي علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ: (( أَلاَّ أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَنْ لاَ تَدَعَ تِمْثَالاً إِلاَّ طَمَسْتَهُ، وَلاَ قَبْرًا مُشْرِفًا إِلاَّ سَوَّيْتَهُ )). وقال العلامة الشريف الحسيني صديق حسن القَنوجي ـ رحمه الله ـ في كتابه "دليل الطالب على أرجح المطالب"(ص:110) معلقاً على هذا الحديث: ومن أعظم الاهتمام النبوي بهذا الأمر إرساله أميراً من أهل بيته وقبيلته لهدم القبور المشرفة فضلاً عن القباب المرتفعة وعمارات المقابر المزخرفة، كما ثبت في "الصحيح" أن علياً ـ رضي الله عنه ـ قال لأبي الهياج الأسدي...اهـوقال قاضي بلاد اليمن العلامة محمد بن علي الشوكاني ـ رحمه الله ـ في كتابه "شرح الصدور في تحريم رفع القبور"(ص:28) عقب هذا الحديث: وفي هذا أعظم دلالة على أن تسوية كل قبر مشرف بحيث يرتفع زيادة على القدر المشروع واجبة متحتمة.اهـ وأخرج الإمام مسلم في "صحيحه"(968) عن ثُمَامَةَ بن شُفَىٍّ ـ رحمه الله ـ أنه قال: (( كُنَّا مَعَ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ ـ رضي الله عنه ـ بِأَرْضِ الرُّومِ بِرُودِسَ فَتُوُفِّىَ صَاحِبٌ لَنَا فَأَمَرَ فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ بِقَبْرِهِ فَسُوِّيَ، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُ بِتَسْوِيَتِهَا )).
وأخرج الإمام مسلم في "صحيحه"(969) عن جابر ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: (( نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ، وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ )). وزاد الإمام أبو داود في "سننه"(3226) بسند صحيح: (( أَوْ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْهِ )).
وأخرج الإمام مسلم في "صحيحه"(972) عن أبي مَرْثَد الغَنَوي ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( لَا تُصَلُّوا إِلَى الْقُبُورِ، وَلَا تَجْلِسُوا عَلَيْهَا )).
وثبت عند عبد الرزاق الصنعاني في "مصنفه"(6486) وابن سعد في "الطبقات الكبرى"(6/107-108) عن عمرو بن شُرَحْبِيل أنه قال لمن حوله حين حضرته الوفاة: (( لَا تُطِيلُوا جَدَثِي ـ يعني: قبري ـ فَإِنِّي رَأَيْتُ الْمُهَاجِرِينَ يَكْرَهُونَ ذَلِكَ )). والمهاجرون هم أفضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يليهم الأنصار ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ.
وثبت عند ابن أبي شيبة في "مصنفه"(11795) وابن شبة في "تاريخ المدينة"(2/181) عن عبد الله بن شُرَحْبِيل بن حَسَنة: (( أَنَّ عُثْمَانَ بن عفان خَرَجَ فَأَمَرَ بِتَسْوِيَةِ الْقُبُورِ، فَسُوِّيَتْ إِلَّا قَبْرَ أُمِّ عَمْرٍو بِنْتِ عُثْمَانَ فَقَالَ: مَا هَذَا الْقَبْرُ؟ فَقَالُوا: قَبْرُ أُمِّ عَمْرٍو فَأَمَرَ بِهِ فَسُوِّيَ )).
وقال الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ في كتابه "الأم"(1/277) يحكي حال الولاة والعلماء في زمنه مع ما بُني على القبور: ولم أر قبور المهاجرين والأنصار مُجصَّصة، وقد رأيت من الولاة من يهدم بمكة ما يُبنى فيها، فلم أر الفقهاء يعيبون ذلك.اهـ
وقال الإمام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم"(2/184): فأما بناء المساجد على القبور فقد صرَّح عامة علماء الطوائف بالنهي عنه متابعة للأحاديث، وصرح أصحابنا وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي وغيرهما بتحريمه، ومن العلماء من أطلق فيه لفظ الكراهة، فما أدري عنى به التحريم، أو التنزيه؟ ولا ريب في القطع بتحريمه.اهـ
وقال أيضاً (2/187): فهذه المساجد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين والملوك وغيرهم، يتعين إزالتها بهدم أو بغيره، هذا مما لا أعلم فيه خلافاً بين العلماء المعروفين، وتُكره الصلاة فيها من غير خلاف أعلمه.اهـ وقال أيضاً كما في "جامع المسائل لابن تيمية"(3/ 41 طبعة: دار عالم الفوائد): والمساجد المبنية على القبور يُشرَعُ باتفاق المسلمين إزالتُها ويجب ذلك.اهـ
وبنحوه قال جلال الدين السيوطي الشافعي ـ رحمه الله ـ في كتابه "الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع"(ص:134).
وقال قاضي بلاد اليمن محمد بن علي الشوكاني ـ رحمه الله ـ في كتابه "شرح الصدور في تحريم رفع القبور"(ص:20): اعلم أنه قد اتفق الناس سابقهم ولا حقهم، وأولهم وآخرهم من لدن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ إلى هذا الوقت: أن رفع القبور والبناء عليها بدعة من البدع التي ثبت النهي عنها، واشتد وعيد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لفاعلها، كما يأتي بيانه، ولم يخالف في ذلك أحد من المسلمين أجمعين.اهـ
وقال الإمام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في كتابه "الاستغاثة"(ص:287): ولهذا لم يكن في زمن الصحابة والتابعين لهم بإحسان على وجه الأرض في ديار المسلمين مسجد مبني على قبر، ولا مشهد يزار، لا بالحجاز ولا اليمن ولا الشام ولا مصر ولا العراق ولا خرسان.اهـ
وقال إمام أهل الشام الليث بن سعد ـ رحمه الله ـ كما في "مختصر اختلاف العلماء"(1/407 مسألة: 387 ـ اختصار: الجصَّاص): بنيان القبور ليس من حال المسلمين، وإنما هو من حال النصارى.اهـ
وقال الإمام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ كما في "مجموع الفتاوى"(31/11): وأما بناء المشاهد على القبور والوقف عليها، فبدعة لم يكن على عهد الصحابة ولا التابعين ولا تابعيهم، بل ولا على عهد الأربعة، وقد اتفق الأئمة على أنه لا يشرع بناء هذه المشاهد على القبور، ولا الإعانة على ذلك بوقف ولا غيره، ولا النذر لها، ولا العكوف عليها، ولا فضيلة للصلاة والدعاء فيها على المساجد الخالية عن القبور، فإنه يعرف أن هذا خلاف دين الإسلام المعلوم بالاضطرار المتفق عليه بين الأئمة، فإنه إن لم يرجع فإنه يستتاب، بل قد نص الأئمة المعتبرون على أن بناء المساجد على القبور مثل هذا المشهد ونحوه حرام.اهـ وقال الإمام ابن قيم الجوزية ـ رحمه الله ـ في كتابه " إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان"(1/ 380-381): وأبلغ من ذلك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هدم مسجد الضرار.
ففي هذا دليل على هدم ما هو أعظم فساداً منه، كالمساجد المبنية على القبور، فإن حكم الإسلام فيها أن تهدم كلها، حتى تُسوى بالأرض، وهي أولى بالهدم من مسجد الضرار، وكذلك القباب التي على القبور يجب هدمها كلها، لأنها أسست على معصية الرسول، لأنه قد نهى عن البناء على القبور كما تقدم، فبناء أسس على معصيته ومخالفته بناء غير محترم، وهو أولى بالهدم من بناء الغاصب قطعاً، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهدم القبور المشرفة كما تقدم.
فهدم القباب والبناء والمساجد التي بنيت عليها أولى وأحرى، لأنه لعن متخذي المساجد عليها، ونهى عن البناء عليها، فيجب المبادرة والمساعدة إلى هدم ما لعن رسول الله عليه وسلم فاعله ونهى عنه. والله يقيم لدينه وسنة رسوله من ينصرهما، ويذب عنهما، فهو أشد غيرة وأسرع تغييراً.
وكذلك يجب إزالة كل قنديل أو سِراج على قبر وطَفْيُه، فإن فاعل ذلك ملعون بلعنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يصح هذا الوقف، ولا يحل إثباته وتنفيذه.اهـ
أيها المسلم الكريم ـ جملك الله بطاعته وأكرمك برضاه:إن اتخاذ قبور الأنبياء والأولياء والصالحين وغيرهم مساجد قد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولعن من فعله، وأخبر أنهم شرار الناس عند الله يوم القيامة، فاحذر من ذلك أشد الحذر، وتجنبه غاية الاجتناب، وإياك أن تكون من أهله، أو تنتظم في سِلك دعاته ومؤيديه، أو تنجرَّ إلى تسهيل أمره وتهوينه، فإن ذلك مصادمة منك للشريعة واضحة، ورَدٌّ لأقوال النبي صلى الله عليه وسلم وهجر، ومَهْلكة كبيرة بئيسة، وجريمة بشعة شنيعة، وقبيحة شديدة جريئة، وسيئة عظيمة خطيرة، وإثم كُبَّار.
واعلم أن اتخاذ القبور مساجد يدخل فيه صور عديدة، ومن أظهر هذه الصور وأبينها هذه الصور الثلاث:
- الأولى: بناء المساجد عليها.
- الثانية: الصلاة إليها.
- الثالثة: تقصد دعاءِ الله وذكره وتسبيحه وتهليله واستغفاره عندها.
وأشد من ذلك وأعظم وأفظع وأغلظ وأكبر وأجرم أن يُصرف لأهلها شيء من العبادات، لأن هذا الفعل من الشرك الأكبر الذي يخرج عن ملة الإسلام، ويحبط جميع الحسنات، ولا يغفره الله لمن لقيه ولم يتب منه، ويُخلِّد في النار، ويحرِّم دخول الجنة . ومن أمثلة ذلك: أولاً: دعاء من في هذه القبور من الموتى بتفريج الكرب، وإزالة الشدائد، وطلب النصرة والعون والتأييد، كقول زائر قبر البدوي: مدد يا بدوي، وقول زائر قبر الجيلاني: أغثني يا جيلاني، وقول زائر قبر الحسين: فرج عنا يا حسين. ثانياً: نذرُ الذبائح وسوقها ونحرها للموتى المدفونين فيها. ثالثاً: الطوافُ حول هذه القبور كما يُطاف حول الكعبة المشرفة. رابعاً: السجودُ لمن دُفن في هذه القبور على عتباتها عند القدوم لزياتهم.
بل إن بعضهم إذا قدم لزيارة بعض القبور يخرُّ من حين وصوله إلى حريم القبر، ويظل يزحف على يديه ورجليه حتى يصل عتبة القبر ثم يسجد عليها ويُقبِّل ويدعو.
وقال قاضي بلاد اليمن العلامة محمد بن علي الشوكاني ـ رحمه الله ـ في كتابه "السيل الجرار"(1/367-368): ولكن هذه البدعة قد صارت وسيلة لضلال كثير من الناس لا سيما العوام، فإنهم إذا رأوا القبر وعليه الأبنية الرفيعة، والستور الغالية، وانضم إلي ذلك إيقاد السُّرج عليه، تسبب عن ذلك الاعتقاد في ذلك الميت، ولا يزال الشيطان يرفعه من رتبة إلي رتبة حتى يناديه مع الله سبحانه، ويَطلب منه ما لا يُطلب إلا من الله عز وجل، ولا يقدر عليه سواه، فيقع في الشرك.اهـ
وقال أيضاً في كتابه "شرح الصدور في تحريم رفع القبور"(ص:29) عقب هذا الحديث: فمن إشراف القبور: أن يُرفع سمكها أو يجعل عليها القباب أو المساجد، فإن ذلك من المنهي عنه بلا شك ولا شبهة.اهـ
وقال أيضاً في كتابه "الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد"(ص:47): وكل عاقل يعلم أن لزيادة الزخرفة للقبور، وإرسال الستور الرائعة عليها، وتسريحها والتأنق في تحسينها، تأثيراً في طباع غالب العوام، ينشأ عنه التعظيم والاعتقادات الباطلة.اهـ
وقال الإمام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم"(2/298-299): فإن نهيه عن اتخاذ القبور مساجد، يتضمن النهي عن بناء المساجد عليها، وعن قصد الصلاة عندها، وكلاهما منهي عنه باتفاق العلماء، فإنهم قد نهوا عن بناء المساجد على القبور، بل صرحوا بتحريم ذلك، كما دَلَّ عليه النص، واتفقوا أيضاً: على أنه لا يُشرع قصد الصلاة والدعاء عند القبور، ولم يقل أحد من أئمة المسلمين: إن الصلاة عندها والدعاء عندها أفضل منه في المساجد الخالية عن القبور، بل اتفق علماء المسلمين على أن الصلاة والدعاء في المساجد التي لم تبن على القبور، أفضل من الصلاة والدعاء في المساجد التي بنيت على القبور، بل الصلاة والدعاء في هذه منهي عنه مكروه باتفاقهم، وقد صرح كثير منهم بتحريم ذلك، بل وبإبطال الصلاة فيها.اهـ وقال الإمام ابن قيم الجوزية ـ رحمه الله ـ في كتابه "إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان"(1/ 353-356): ومن جمع بين سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور، وما أمر به ونهى عنه، وما كان عليه أصحابه، وبين ما عليه أكثر الناس اليوم: رأى أحدهما مضاداً للآخر، مناقضاً له، بحيث لا يجتمعان أبداً، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة إلى القبور، وهؤلاء يصلون عندها. ونهى عن اتخاذها مساجد، وهؤلاء يبنون عليها المساجد، ويسمونها مشاهد، مضاهاة لبيوت الله تعالى، ونهى عن إيقاد السُّرج عليها، وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل عليها، ونهى أن تُتخذ عيداً، وهؤلاء يتخذونها أعياداً ومناسك، ويجتمعون لها كاجتماعهم للعيد أو أكثر، وأمر بتسويتها، كما روى مسلم في "صحيحه" عن أبى الهَيّاج الأسدي قال: قال على بن أبى طالب ـ رضى الله عنه: (( أَلا أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِى عليهِ رَسُولُ صلّى اللهُ عَليْهِ وَسلّم: أَنْ لا تَدَعَ تِمْثَالاً إِلا طَمَسْتَهُ، وَلا قَبْرًا مُشْرِفاً إِلا سَوَّيْتَهُ )).
وفي "صحيحه" أيضاً عن ثُمامة بن شُفَىٍّ قال: (( كُنَّا مَعَ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ بِأَرْضِ الرُّومِ بِرُودِسَ فَتُوُفِّىَ صَاحِبٌ لَنَا فَأَمَرَ فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ بِقَبْرِهِ فَسُوِّيَ، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُ بِتَسْوِيَتِهَا ))، وهؤلاء يبالغون في مخالفة هذين الحديثين، ويرفعونها عن الأرض كالبيت، ويعقدون عليها القباب، ونهى عن تجصيص القبر والبناء عليه، كما روى مسلم في "صحيحه" عن جابر قال: (( نَهَى رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عَنْ تَجْصِيصِ الْقَبْرِ، وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ، وَأنْ يُبْنَى عَلَيْهِ ))، ونهى عن الكتابة عليها، كما روى أبو داود والترمذي في "سننهما" عن جابر ـ رضى الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( نَهَى أنْ تُجَصَّصَ الْقُبُورُ، وَأَنْ يُكْتَبَ عَلَيْهَا ))، قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وهؤلاء يتخذون عليها الألواح، ويكتبون عليها القرآن وغيره، ونهى أن يُزاد عليها غير ترابها، كما روى أبو داود من حديث جابر أيضاً: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( نَهَى أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْر، أَوْ يُكْتَبَ عَلَيْهِ، أَوْ يُزَادَ عَلَيْهِ ))، وهؤلاء يزيدون عليه ـ سوى التراب ـ: الآجُرّ والأحجار والجِصّ. والمقصود: أن هؤلاء المعظمين للقبور، المتخذينها أعياداً، الموقدين عليها السُّرج، الذين يبنون عليها المساجد والقباب: مناقضون لما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، مُحادون لما جاء به.اهـ
أيها المسلم الكريم ـ أعانك الله على طاعته وأسعدك بنواله:قد سمعت نهي نبيك صلى الله عليه وسلم الصحيح الصريح، الواضح الجلي لك ولجميع المسلمين في سائر الأزمان، وجميع البلدان عن البناء على القبور، وسمعت هديه في ما بُني عليها، وأنه: هدمه وإزالته، وتسويتها بالأرض. فتمسك به، وعَضّ عليه بالنواجذ، وقابله بالانقياد والرضا والتسليم والقبول، فإن ذلك دليل صدق الإيمان، وبرهان الخوف من الله الرحمن، وإياك أن تفارقه إلى غيره فتضل، وحاذر أن تعمل بخلافه فتهلك، فقد قال سبحانه في شأن نبيه صلى الله عليه وسلم وشأن الناس جميعاً: [b]﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾[/b]. وقال ـ عز وجل: [b]﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾.[/b]وإن لبَّس وشوَّش عليك أهل البدع والضلال، من أهل الرفض والتشيع، ودعاة التصوف والخرافة، هؤلاء الذين لم يتربوا على الانقياد للنصوص النبوية الكريمة، والإذعان لما جاء فيها من أحكام، وقول سمعنا وأطعنا عند الاحتجاج بها، فجوزوا بناء المساجد على القبور أو جوزوا بناء القُبب أو المقاصير أو الجُدُر أو غيرها عليها، وقالوا: هذا قبر النبي محمد صلى الله عليه وسلم موجود في مسجده بالمدينة.
فأجبهم وأزل باطلهم واكشف شبههم بهذه الأجوبة الخمسة أو ببعضها ـ رزقك الله السداد:الأول: إن موضع الكلام بيننا وبينكم ليس في دفن الميت في البنيان كبيته أو غرفة من بيته، وإنما هو في حكم البناء على القبور سواء بُني على القبر مسجد أو قبة أو غرفة أو غير ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما دُفن في حُجرة زوجته المصونة أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ، والحُجرة كانت موجودة ومسكونة قبل حفر القبر بزمن، فلا يصح لكم الاستدلال والاحتجاج علينا بذلك، ومعارضة أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة المستفيضة في النهي عن بناء المساجد وغيرها على القبور، وذم أهله وتقبيحهم.
الثاني: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُدفن في مسجده، وإنما دفن في حُجرة زوجته الكريمة أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ، وقد كانت الحجرة شرقي المسجد، ولم تكن لا فيه ولا منه، فلا يصح لكم الاستدلال والاحتجاج بما ذكرتم، لأن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ عند موته صلى الله عليه وسلم لم يذهبوا إلى مسجده ويحفروا له فيه قبراً، وإنما حفروا له في بيته الذي هو خارج المسجد لا داخله.
الثالث: أن حُجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إنما أُدخلت في المسجد في خلافة الوليد بن عبد الملك ـ رحمه الله ـ بعد موت الخلفاء الراشدين، وعامة الصحابة الذين كانوا في المدينة، إذ أمر الوليد بن عبد الملك ـ رحمه الله ـ في سنة ثمان وثمانين بهدم المسجد النبوي وإضافة حُجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إليه على سبيل التوسعة، فأدخل فيه الحُجرة النبوية، حُجرة أم المؤمنين عائشة التي فيها القبر. فلا يصح لكم الاحتجاج بما وقع بعد الخلفاء الراشدين وعامة الصحابة، وفعله حاكم ذو سلطة وشوكة، وترْك الأحاديث النبوية الصحيحة المستفيضة الناهية عن ذلك، لأن حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدم على حكم وقول كل أحد، كائناً من كان. وقد قال الإمام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في كتابه " اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم"(2/243-244): فكانت حجرة عائشة التي دفنوه فيها منفصلة عن مسجده، وكان ما بين منبره وبيته هو الروضة، ومضى الأمر على ذلك في عهد الخلفاء الراشدين ومن بعدهم، وزيد في المسجد زيادات وغُيِّرَ، والحُجرة على حالها هي وغيرها من الحُجَر المطيفة بالمسجد من شرقيه وقبليه، حتى بناه الوليد بن عبد الملك، وكان عمر بن عبد العزيز عامله على المدينة، فابتاع هذه الحجر وغيرها وهدمهن وأدخلهن في المسجد.اهـوأما القُبَّة المبنية على حجرته صلى الله عليه وسلم فقد أجاب عنها العلامة الشريف محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني ـ رحمه الله ـ في كتابه "تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد"(ص:51) فقال: فإن قلت: هذا قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد عُمرت عليه قبة عظيمة، أنفقت فيها الأموال.
قلت: هذا جهل عظيم بحقيقة الحال، فإن هذه القبة ليس بناؤها منه، ولا من أصحابه، ولا من تابعيهم، ولا من تابعي التابعين، ولا من علماء أمته، وأئمة ملته، بل هذه القبة المعمولة على قبره صلى الله عليه وسلم من أبنية بعض ملوك مصر المتأخرين، وهو قلاوون الصالحي المعروف بالملك المنصور في سنة ثمان وسبعين وستمائه، ذكره في "تحقيق النصرة بتلخيص معالم دار الهجرة"، فهذه أمور دوليه لا دليلية، يتبع فيها الآخر الأول.اهـ
وقال الشيخ محمد بن سلطان المعصومي الحنفي ـ رحمه الله ـ في كتابه"المشاهدات المعصومية عند قبر خير البرية"(ص:48): اعلم أنه عام (678هـ) لم تكن هناك قبة على الحُجرة النبوية التي فيها قبره صلى الله عليه وسلم، وإنما عملها وبناها الملك الظاهر المنصور قلاوون الصالحي في تلك السنة، فعملت تلك القبة.
قلت: إنما فعل ذلك لأنه رأى في مصر والشام كنائس النصارى المزخرفة، فقلدهم جهلاً منه بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وسنته، كما قلدهم الوليد في زخرفة المسجد، فتنبه.اهـ وقال العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز ـ رحمه الله ـ كما في "فتاوى نور على الدرب"(2/332-333): أما ما يتعلق بالقبة الخضراء التي على قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا شيء أحدثه بعض الأمراء على المدينة المنورة، في القرون المتأخرة، ولا شك أنه غلط منه، وجهل منه، ولم يكن هذا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا في عهد أصحابه، ولا في عهد القرون المفضلة، وإنما حدث في القرون المتأخرة التي كثر فيها الجهل، وقلَّ فيها العلم، وكثرت فيها البدع، فلا ينبغي أن يُغتر بذلك، ولا أن يُقتدى بذلك، ولعلَّ من تولى المدينة من الملوك والأمراء والمسلمين تركوا ذلك خشية الفتنة من بعض العامة، فتركوا ذلك وأعرضوا عن ذلك حسماً لمادة الفتن، لأن بعض الناس ليس عنده بصيرة، فقد يقول: غيروا وفعلوا بقبر النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا كذا، وهذا كذا، فيثير الفتن التي لا حاجة إلى إثارتها وقد تضر إثارتها، فالأظهر والله أعلم أنها تُركت لهذا المعنى، خشية رواج فتنة يثيرها بعض الجهلة، ويَرمي من أزال القبة أنه يستهين بالنبي صلى الله عليه وسلم، أو بأنه لا يراعي حرمته ـ عليه الصلاة والسلام ـ.اهـ
وقال أيضاً (2/338): أما قبة النبي صلى الله عليه وسلم فهذه حادثة أحدثها بعض أمراء الأتراك، في بعض القرون المتأخرة في القرن التاسع أو الثامن، وترك الناس إزالتها لأسباب كثيرة، منها كثرة الجهل ممن يتولى إمارة المدينة، ومنها خوف الفتنة، لأن بعض الناس يخشى الفتنة، لو أزالها لربما قام عليه الناس، وقالوا: هذا يبغض النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا كيت وكيت، وهذا هو السر في إبقاء الدولة السعودية لهذه القبة، لأنها لو أزالتها لربما قال الجهال ـ وأكثر الناس جهال ـ: إن هؤلاء إنما أزالوها لبغضهم النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ، ولا يقولون: لأنها بدعة، وإنما يقولون: لبغضهم النبي صلى الله عليه وسلم، هكذا يقول الجهلة وأشباههم، فالحكومة السعودية الأولى والأخرى إلى وقتنا هذا، إنما تركت هذه القبة المحدثة خشية الفتنة، وأن يظن بها السوء، وهي لا شك أنها والحمد لله تعتقد تحريم البناء على القبور، وتحريم اتخاذ القباب على القبور.اهـ
الرابع: إن فعل الوليد بن عبد الملك ـ رحمه الله ـ لا يُعتبر من دفن الموتى وقبرهم في المسجد، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبيه لم تنقل جثثهم إلى أرض المسجد، وإنما أدخلت الحجرة التي دُفنوا بها إلى المسجد من أجل التوسعة. فلا يصح لكم الاحتجاج بذلك على جواز البناء على القبور أو اتخاذ المساجد عليها أو دفن الموتى فيها.
الخامس: أنكم لستم ممن يريد معرفة الحق والعمل به، ولا اتباع السنة النبوية والاهتداء بها، بل أنتم أهل ضلال وانحراف وهوىً وتلبيس، لأنكم قد تركتم النصوص النبوية الكثيرة الصحيحة الواضحة المحكمة البينة في حكم ذلك إلى ما ليس بحجة ولا دليل، بل ولم ينقل عن أحد من سلف الأمة الصالح من الصحابة أو التابعين أو أتباع التابعين أو الأئمة الأربعة أو تلامذتهم المعروفين أنه احتج بهذا الأمر الذي ذكرتموه على جواز البناء على القبور، بل أقوالهم وكتبهم مشهورة في متابعة السنة النبوية في الزجر عن ذلك وذمه، وتحذير الناس منه، لكن أين من يقرأ فيها ويطالعها؟.
وفي الختام: أسأل الله تعالى أن يرزقنا العمل بكتابه الكريم وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم الجليلة، والتسليم لهما، وأن يُشرِّفنا بالانقياد لما دلَّا عليه، وجاء فيهما، وأن يجنبنا الشرك قليله وكثيره، صغيره وكبيرة، ويباعد بيننا وبين البدع ودعاتها، ويمنَّ علينا ببغضها والنفرة منها، ويكرمنا بمتابعة السلف الصالح الماضين من أهل القرون الأولى في أقوالهم وأفعالهم إنه سميع مجيب.
وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. | |
|